صبيانيّات أمريكا وخزعبلات روسيا
وصلني، ضمن ما يتبادله الأصدقاء من مواد مكتوبة أو مصورة على الواتساب، فيديو قصير من النوع الذي تخصصت في ترويجه منصة التواصل الصينية (المشبوهة غربيا) تيكتوك يعرض مقتطفا لخطاب ألقته كامالا هاريس في جمع من الأمريكيين. تقول نائبة الرئيس الأمريكي لجمهور المستمعين: «أوكرانيا بلاد في أوروبا. وهي تقع بجوار بلاد أخرى تسمى روسيا. وروسيا هذه أكبر من أوكرانيا. روسيا بلاد قوية. وقد قررت روسيا غزو بلاد أصغر منها تسمى أوكرانيا. إنه بكل تأكيد عمل وخيم».
هذا مقتطف حقيقي من خطاب حقيقي ألقته كامالا هاريس في جمع من المواطنين الأمريكيين دون أن تنتابها أي رغبة في الضحك، ودون أن ينتبه أي من مستمعيها إلى مكامن الكوميديا، بل إلى مدافعها المدوية، في ما وجه لهم من كلام. إلا أن من الإنصاف القول إنه إذا كان مستوى الخطاب مدهشا لنا، نحن معشر البشرية غير الأمريكية، فإنه المستوى المناسب والمطلوب، بل إنه الدليل الدامغ على أن المرأة عارفة حق المعرفة بدرجة اطلاع شعبها الكبير على شؤون العالم الصغير. وقد أتيح لكثير ممن أقاموا في أمريكا أو زاروها أن لمسوا هذا الجهل الشعبي الأمريكي الشامل بخريطة الكرة الأرضية وبأحوال البشرية. ولست أنسى أن إدوارد سعيد كتب مرة ما معناه: كيف لهذه الدولة أن تزعم الجدارة بقيادة العالم ومعالجة مشكلاته وحل نزاعاته، بينما نعلم أن بضع عشرات من أعضاء الكونغرس (كان ذلك أوائل التسعينيات) ليس لديهم جوازات سفر أصلا!
ليس المعنى أن أعضاء الكونغرس المذكورين لا يعرفون العالم فحسب، بل إنه لا فضول عندهم لمعرفته من الأساس. ولهذا لم يخطر ببال أحدهم أن يتجشم عناء استخراج الوثيقة اللازمة التي تمكّن من «الجواز» أي الخروج والعبور إلى العالم واللقاء به! ولكن القوم في كل ذلك معذورون. فهل ثمة في الدنيا عالم غير أمريكا؟! ليس ثمة. ولهذا فإن دوري البيسبول الأمريكي لا يزال يسمّى، منذ 1903، التسمية الصحيحة: الدوري العالمي!
يقول منتج فيديو التيكتوك في التعليق على خطاب كامالا هاريس: إن كلامها لا يختلف في مستواه عن أي كلام تقوله مربية في روضة أطفال، وإن هذا متوقع لأن اطلاع الأمريكيين على العالم لا يتجاوز ما يعرفه طفل صغير. ولكنه سرعان ما ينتقل للتذكير بأعمال الغزو والاحتلال التي ارتكبتها الولايات المتحدة في مختلف أنحاء العالم، ويعدد منها حوالي خمسين. ثم يختم ناعيا على أمريكا، والدول الغربية عموما، نفاقها وكيلها بمكيالين أو أكثر.
واللافت أن هذا النوع من الفيديوهات قد ملأ الفضاء الافتراضي وشبكات التواصل. إذ يسير منتجو هذه الأشرطة القصيرة على طريقة واحدة في الاستدلال: يبدأون بذكر التنديد الغربي بالعدوان الروسي على أوكرانيا، ويذكّرون ثانيا بأعمال العدوان الأمريكية والغربية ليتخذوها دليلا قاطعا على النفاق الغربي، ثم يختمون الشريط بنبرة انتصارية، ولكن دون أن يقولوا شيئا عن موقفهم من العدوان الروسي. الرسالة إذن واضحة: بما أن الغرب غزا واعتدى (علينا وعلى غيرنا) في الماضي، فإن عدوان روسيا في الحاضر يلزمنا بواجب الرضا والمباركة!
إنها بروباغاندا فجة من العجيب أن بعض العرب يطربون لها ويروّجونها، وينتهزون الفرصة للتذكير بأن لأوكرانيا علاقات مع الكيان الصهيوني. لكأن ثمة في أوروبا بأسرها بلدا واحدا يناصب إسرائيل العداء! أو لكأن العالم لا يعرف أن روسيا هي من أصدق أصدقاء إسرائيل، وأنها البلد الذي أمدّها منذ مجيء غورباتشوف إلى اليوم بأكبر عدد من المهاجرين (أكثر من مليون) وبأن التعاون العسكري والتكنولوجي بين البلدين في تنام مستمر وبأنهما متفاهمان على تقاسم المصالح في البلاد العربية عموما، وفي سوريا خصوصا، وبأن بوتين ونتنياهو نسخة من نموذج فاشي واحد، مثلما بين المعلق الأمريكي توماس فريدمان (الذي لا يمكن بأية حال اتهامه بمعاداة إسرائيل).
الدعاية الروسية مفتضحة، وقد افتضحت أكثر بعد التسريبات التي بلغت الغارديان. وإذا كان الكذب متأصلا في طبائع الاستبداد، فإن المدهش هو تصديق بعض العرب لهذا الكذب واحتفاؤهم بما يقترن به من جرائم العدوان. هذا رغم أن رفض الظلم والعدوان هو مسألة مبدأ يلزم بالتسامي على مشاعر السخط والرضا. فما الأصوب أخلاقيا: الثبات على المبدأ في جميع الحالات الإنسانية أم التقلب في عبثية المفاضلات بين أمريكا بصبيانيات سياستها أو روسيا بخزعبلات دعايتها؟
القدس العربي