طريق الآلام السوداني
متى تتوقف الحرب الجارية في الخرطوم؟ وهل من أفق أفضل للسودان مع وقف شامل مستدام لإطلاق النيران؟ تبدو التمنيات الطيبة مفهومة ومبررة أخلاقيا، لكن الواقع يمضي للأسف في اتجاه معاكس، فعبر ثلاثة أسابيع من الاقتتال حتى اليوم، توالت «الهدن» واتفاقات كف النار، ومع ذلك جرى اختراقها جميعا، وكل طرف يتهم خصمه، وحتى لو جرى تمديد «الهدن» إلى أسبوع، أو حتى أسابيع، فقد لا يعني ذلك إمكانية التوصل إلى حل بالتراضي، فطبيعة المعركة صفرية، ولا نهاية لها بغير إنهاء كابوس وجود جيشين حاكمين في السودان، فكل بلد مستقر في الدنيا له جيش واحد، وإلا صار الأمر فوضى دامية، وميليشيات تتنازع وتتقاتل بلا نهاية.
ولم يعد شيء مما جرى خافيا، فقد بدأ الاقتتال الحالي منذ 15 أبريل/نيسان الفائت، وكان الهدف ظاهرا، وتصور محمد حمدان دقلو «حميدتي» قائد ما يسمى «قوات الدعم السريع»، أن القصة ستنتهي في دقائق، أو حتى في ساعات، وأنه سيفوز بحكم السودان وقيادة الجيش، وهو ما يفسر أسلوب «الصدمة والرعب» الذي استخدمه، وانقضاض قواته على الحرس الرئاسي، وعلى حماية الجنرال عبد الفتاح البرهان القائد العام للقوات المسلحة السودانية، وبهدف قتله أو اعتقاله، لكن الأمور جرت على غير ما اشتهى حميدتي، ونجا البرهان رئيس المجلس السيادي، واعتصم بغرف مبنى «القيادة العامة»، وبجنرالات الجيش، الذين أداروا الحرب باحتراف ملحوظ، وتحركوا بطول وعرض السودان وولاياته، ونجحوا في طرد قوات حميدتي من قاعدة مروي في الشمال، ومن كل القواعد والمعسكرات والمطارات، اللهم إلا من متاعب تبقت في مطار «نيالا» بدارفور، ومن مطار العاصمة الخرطوم طبعا، وقد تعطل تماما، وتحطمت أغلب الطائرات المدنية السودانية والأجنبية فيه، بسبب الاشتباكات الدائرة داخله وحوله، كما حول «القصر الرئاسي»، وفي مدن الخرطوم الثلاث (الخرطوم والخرطوم بحري وأم درمان)، فيما لجأ شتات «الدعم السريع» إلى الأحياء السكنية المكتظة، بعد إجلائهم قسرا عن 11 معسكرا كانت لهم في الخرطوم وما حولها، ما يعني ببساطة، أن الهدف الأول للحرب العبثية جرى إفشاله، وإن كانت معاناة أهل الخرطوم تتفاقم، فقد انهار الأمن تماما، وانقطعت أغلب الخدمات، وجرى غلق أغلب المستشفيات والصيدليات والمخابز والمتاجر ومحطات المياه والوقود، ونهبت البنوك، وتفشى السلب والقتل والترويع، واقتحام كل السجون وإطلاق كل المجرمين العتاة، وتضاعفت أسعار السلع وأجور الانتقال إلى حدود جنونية، وتوالت قوافل الراغبين في النجاة من الجحيم، وصار أغلب حرص ما يسمى «المجتمع الدولي»، أن يسحب رعاياه ودبلوماسييه، ويغلق السفارات، وطغت قصص إجلاء العرب والأجانب، تماما كما قصص النزوح واللجوء الواسع في طرق الآلام عبر حدود السودان مع سبع دول مجاورة، وانتهينا إلى وضع بالغ التعقيد، فكل يوم يمر يفاقم خطورة المأساة، ولم يسبق للسودان على كثرة حروبه الأهلية، أن واجه وضعا كهذا منذ استقلاله الرسمي في يناير/كانون الثاني 1956.
جيشان رسميان يتقاتلان في العاصمة نفسها، ففي عام 2008، كان الوضع مختلفا، وصد الجيش هجوما على «أم درمان» من «حركة العدل والمساواة» القادمة وقتها من «دارفور»، وكانت النتيجة محسومة سريعا لصالح الجيش، لكن قوات حميدتي كانت موجودة في كل الخرطوم قبل بدء الاقتتال، وبعديد يصل إلى نحو 50 ألفا، وبكامل أسلحتها و2500 عربة دفع رباعي، ومتمركزة إلى جوار جنود الجيش في كل المراكز السيادية، وفي قلب مباني القيادة العامة ذاتها، إضافة لما جاءها من مدد إضافي، وفي ساعة الصفر حدث الغدر المفاجئ، ورغم صدور قرار لاحق من البرهان بحل تشكيلات «الدعم السريع»، وسحب ضباط الجيش وحرس الحدود والشرطة المنتدبين إليها، إلا أن الفأس كانت قد وقعت في الرأس، وانتشرت «قوات الدعم السريع» في كل أنحاء العاصمة، واعتقلت عددا كبيرا من ضباط الجيش من منازلهم، واحتجزت أسرهم رهائن، كما تستخدم المدنيين دروعا بشرية، وهربت من غارات سلاح الجو السوداني، وتحركت في مجموعات صغيرة في الشوارع الداخلية، وواصلت القنص من أعلى المباني، ولا تزال تشكل تهديدا لكل المرافق السيادية وسط الخرطوم، فوق الاستيلاء على أغلب المرافق الخدمية، وهو ما يعجز الجيش عن استخدام فوائض قوته وأسلحته الثقيلة خوفا على حياة وممتلكات المدنيين، في الوقت الذي تمضى فيه عمليات التطهير ببطء، مع تكرار الوعود بالتصفية النهائية لتمرد «قوات الدعم السريع»، وفي آجال قدرها الجنرال ياسر العطا ـ مثلا ـ بنحو أسبوعين إضافيين، يدخل فيها عمر الاقتتال إلى شهره الثاني، مع محاولات جر الحرب إلى مناطق أخرى في «دارفور» وغيرها، وإلى احتراب أهلي واسع النطاق. ورغم النبل الأخلاقي لنداءات وقف الحرب فورا، وما قد يكون من نوايا طيبة لبعض وساطات دولية وإقليمية جارية، لكنها لن تؤدي إلى سلام أو استقرار في السودان في ما نظن، فالمأساة الراهنة كوابيس سودانية داخلية الأسباب أساسا، وإن استثمر فيها آخرون في المنطقة والعالم، والحل ينبغي أن يكون سودانيا خالصا أيضا، فقد نشأت ظاهرة قوات حميدتي بقرار من الرئيس السوداني المخلوع عمر البشير، وجرى التواطؤ على التوسع فيها بعد ثورة ديسمبر/كانون الأول 2018 ثم ذهاب البشير، وزاد الجنرال البرهان الطينة بلة، حين ألغى المادة الخامسة من قانون إنشاء «قوات الدعم السريع»، بما أعطى حميدتي استقلالية أكثر في التصرف بعيدا عن قيادة القوات المسلحة، والاستطراد في بناء إمبراطوريته الخاصة، والاستغلال الشخصي لمناجم الذهب الغنية في دارفور وكردفان، وانتفاخ ثروته الشخصية والعائلية، وبناء شبكة علاقات إقليمية ودولية تخصه، ومن وراء ستار صفته الرسمية كنائب لرئيس مجلس السيادة، وتحويل «قوات الدعم السريع» إلى جيش منفصل عن الجيش الأصلي، وهكذا صار حميدتي تاجر المواشي السابق مليارديرا، إضافة لصفة «الفريق أول» الممنوحة له جزافا، فالرجل لم يتلق تعليما مدنيا يجاوز شهادة المدرسة الابتدائية، ولم يتلق تعليما عسكريا من أي نوع، وأغرته سيولة المشهد السوداني، واستشراء النفوذ الأجنبي الأمريكي والأوروبي «الأممي» في أوساط جماعات مدنية، فاندفع بذكاء انتهازي فطري إلى رفع ما يرددون من شعارات، وطرح نفسه كزعيم ديمقراطي منقذ مقابل استبداد منسوب إلى البرهان، وإلى تنفيذ خطة أطراف إقليمية باستبدال وتفكيك الجيش السوداني، وجعل ميليشيا «الدعم السريع» جيشا بديلا، وكان حميدتي يأمل في أن ينهي القصة سريعا، يوم بدأ الحرب في 15 أبريل/نيسان 2023، وبهدف إزاحة البرهان من طريقه، وكان الأخير وافق في ما يسمى «الاتفاق الإطاري» الأخير، أن يترك السلطة تماما للمدنيين، بل إن البرهان، كما قال، عرض أن ينسحب بشخصه من المشهد ومعه حميدتي، ورفض حميدتي، تماما كما رفض خطة قصيرة المدى لدمج «قوات الدعم السريع» في صفوف الجيش، ورغب في إطالة المدة لعشر سنوات مقبلات، لا يتبع فيها قيادة الجيش، ويحكم من وراء ستار رأس دولة مدني، ثم اختار الطريق الأقصر إلى غاية طموحه، بتصفية وجود الجيش نفسه، والانفراد بالساحة العسكرية، وطرح نفسه كما لو كان أبا راعيا للديمقراطية، يدافع عما سماه «خيار الشعب»، وكأن زعيم ميليشيا إجرامية، يصح له أن يكون زعيما للشعب، مستفيدا من ضعف وتفرق وتهافت كثير من القوى والأحزاب المدنية، ورغبة بعضها في أن يحكم البلد مباشرة، ومن دون إجراء انتخابات عامة، وفي مرحلة انتقالية متعثرة متطاولة الوقت، حتى لو كان الثمن تفكيك السودان نهائيا، وهو ما بدا من سلوك أطراف سياسية طافية على سطح الحوادث، تدعي أنها تريد وقف الحرب الجارية في العاصمة الخرطوم، وتدعو لتفاوض يستبقي مستقبل حميدتي ودوره، وقد تكون بعض هذه الأطراف حسنة النية، وقد تكون تدرك أو لا تدرك، أن القصة ليست في بقاء البرهان، أو ذهابه، بل في مصير الجيش السوداني نفسه، وهو المؤسسة الوحيدة ذات الطابع الوطني الجامع، وحجر الزاوية في التطلع لبناء دولة مركزية أقوى في السودان، لا تقوم من دونها أي ديمقراطية ذات معنى، فلا ديمقراطية تقوم في فراغ دولة، والسودان باتساع مساحته ووفرة موارده وتنوعه القبلي والعرقي الكثيف، وتداخل حدوده مع دول حروب أهلية في غالبها، قد يذهب إلى نهايات التفكيك، وتكتب شهادة وفاته لا قدر الله، إن لم يكن له جيش واحد محترف على أساس التجنيد القومي العام، فلا تقوم دولة بجيشين، ولا بميليشيا حرفتها القتل وغايتها النهب.
القدس العربي