رداً على عزل «القاضية المجنونة»: مطلوب مجانين لعزل النظام الطائفي !
لا أذكر، كمواطنٍ ومحامٍ، أن قام القضاء في لبنان يوماً بمحاكمة قاضٍ بقسوةٍ كالتي أنزلها منذ أيام بالنائبة العامة الاستئنافية في محافظة جبل لبنان السيدة غادة عون. لم يكتفِ المجلس التأديبي للقضاة بأن وحّد 12 شكوى ذات خلفية سياسية مقدّمة ضدها، في قرارٍ واحد يقضي بصرفها من الخدمة، بل تقصّد أيضاً، على ما يبدو، تجاهل تدرّج العقوبات، ذلك أن العقوبة الأقسى ـ الصرف من الخدمة مع الحرمان من تعويض الصرف ـ يسبقها عادةً تنبيه، أو لوم، أو تأخير ترقية لمدة لا تتجاوز السنتين، أو إنزال درجة، أو الوقف عن العمل من دون راتب لمدة لا تتجاوز السنة. هذه القسوة حملت مراقبين وقانونيين وسياسيين، على الاعتقاد بأنها أتت نتيجةَ تدخل متضررين نافذين من طريقة إدارة القاضية عون، لتحقيقاتها التي انطوى بعضها على اشتباه، وأحياناً على اتهام لكبارٍ من أهل النظام ومنظومته الحاكمة، بارتكاب مخالفات فاضحة للقانون أو التورط في فضائح مالية مدوّية.
صحيح أن القاضية عون لجأت في تحقيقاتها إلى أسلوبٍ استعراضي غير مألوف، كما تجرأت على تفسير أحكام القانون على نحوٍ استثنائي جداً بقصد ملاحقة مطلوبين للتحقيق خارج دائرة صلاحيتها المكانية، وأنها لجأت إلى الجهر باتهام بعض المطلوبين للتحقيق، وأسباب اتهامهم أمام مراجع سياسية في الخارج (فرنسا) كما في مختلف وسائل الإعلام المرئي والمسموع. لكن، كل هذه المآخذ والتجاوزات قابلة للطعن بها أمام المحاكم القضائية المختصة، فلماذا تجاوز المجلس التأديبي هذه الفرصة المشروعة وسارع إلى اتخاذ قراره القاسي؟
«أهل النظام، هالتهم الشعبية المتعاظمة التي تحظى بها القاضية غادة عون، وأدركوا خطرها على مستقبل النظام الفاسد ووجودهم ومصالحهم فيه، فأقدموا على الثأر منها»
تردّد في أوساط الرأي العام، أن المجلس التأديبي ما كان ليكون على هذه الدرجة من القسوة في حكمه، لولا حرص تكتل سياسي وازن من أهل السلطة على أن يأتي قرار بعزل القاضية عون من القضاء ذاته، وذلك للحؤول دون إفادة «التيار الوطني الحر»، أي حزب الرئيس السابق ميشال عون وحلفائه، من ردود الفعل السلبية على عزلها، خصوصاً بعدما تبيّن أنها تحظى بشعبية لافتة في أوساط المودعين ومؤيديهم المهدّدين بخسارة ودائعهم في المصارف، كما لدى الجمهور غير المنتمي أو المؤيد لأيٍ من التكتلات البرلمانية والسياسية، التي تشكّل القاعدة الأساس للمنظومة الحاكمة بكل تلاوينها السياسية. لا شك في أن القاضية عون تصرفت بحذقٍ وبراعة في حملتها الإعلامية على خصومها في القضاء، كما على داعميهم من أهل السلطة. فقد ردّت عليهم بعد صدور قرار المجلس التأديبي ضدها بقولها: «أنا مع الناس الموجوعين. اشتغلت شغلي وما عملت شيء غلط. إنهم يلاحقون القاضي الوحيد في البلاد الذي يعمل على تحقيق العدالة». هذا الكلام النوعي غير مألوف صدوره عن قضاة أو مسؤولين في أيٍّ من السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، وله تالياً صدى إيجابي واسع في الأوساط الشعبية، خصوصاً بعد تفجّر خلافات حادة في صفوف القضاة أنفسهم، قبل صدور القرار التأديبي ضد القاضية عون، ما أدى إلى شلّ القضاء المتوقف عن العمل أصلاً منذ أشهر بسبب إضراب القضاة الذين يعانون من ضآلة تعويضاتهم في زمن الانهيار والغلاء. كل هذه الملابسات حملت أوساطاً واسعة في الرأي العام على تفسير سلوكية المجلس التأديبي بأنها نتيجةَ تدخل مسؤولين كبار في المنظومة الحاكمة، ليسوا متهمين أو متضررين بالضرورة، لكنهم يخشون من أن تؤدي حملة القاضية عون على الفساد والمفسدين، وجرأتها في ملاحقة رموزٍ من أهل النظام الطائفي، إلى تعزيز المعارضة الشعبية المتعاظمة ضده، وبالتالي إلى إحداث تغيير وازن في موازين القوى السياسية في البلاد قد تُفضي، عاجلاً أو آجلاً، إلى إسقاطه بكل أشخاصه ومؤسساته.
في غمرة هذه الحال المضطربة، عُقدت عدّة اجتماعات وندوات وحوارات شعبية وسياسية، تسنّى لي أن أشارك في إحداها وان أقول للحاضرين والمتحاورين فيها، إن ثمة عاملاً ثقافياً في سلوكية أهل النظام له تأثير ودور في سلوكية أعضاء المجلس التأديبي أيضاً، ذلك لأن الفساد في البلاد تحوّل بالممارسة الزمنية المديدة والمتمادية إلى ثقافة، بل إلى طريقة حياة. فوق ذلك، ثمة بُعد عشائري في ثقافة أهل السياسة، خصوصاً لدى أمراء الطوائف، وأركان المنظومة الحاكمة. ففي أوساط العشائر يحدث أحياناً أن يقوم أحد أبنائها بقتل غريم له من أبناء العشيرة ذاتها، أو من عشيرة أخرى، فلا يتورع واحد من ذوي القتيل عن الثأر له بقتل رجل من ذوي القاتل يتوخى، غالباً، أن يكون من الأفضل والأبرز في أسرته ومحيطه، ثم خلصتُ إلى القول إن ثمة ثقافة بين أهل نظام المحاصصة الطائفي هي ثقافة الثأر، أو الانتقام من المعتدين على أحد اركان منظومته الحاكمة، وذلك للحؤول دون تكوين ثقافة مضادة لدى المتضررين منه، أو لدى معارضيه الجدّيين قد تُسهم في تلطيخ سمعته وتهديم سلطته ما يؤدي لاحقاً إلى إسقاطه. بعد مداخلتي، قام أحد المتحاورين الشبان بتأييد ما قلته، مضيفاً أن أهل النظام، هالتهم الشعبية المتعاظمة التي تحظى بها القاضية غادة عون، وأدركوا خطرها على مستقبل النظام الفاسد ووجودهم ومصالحهم فيه، فأقدموا على الثأر منها بذلك القرار القاسي الصادر عن المجلس التأديبي. لم يكتفِ الشاب المتحمس بتأييده الحارّ لغادة عون، بل شفع ذلك بفكرةٍ راديكالية مفادها أن أهل النظام الفاسد ومن يذهب مذهبهم بين القضاة والساسة المرتكبين، نعتوا القاضية عون بأنها مجنونة، وأنها لو لم تكن كذلك لما قامت بما قامت به من أعمال وتصرفات غير مألوفة البتة في لبنان. بعد ذلك فجّر الشاب المتحمس ما سماه الدرس الذي استخلصه كما غيره من الشبان المتحمسين والمعادين للنظام الطائفي وهو، أن لا سبيل إلى الخلاص من هذا النظام الفاسد ومنظومته الحاكمة إلاّ بالردّ على ثأر أهل النظام من القاضية المتهمة بالجنون، بإعداد مجموعات من معارضين مجانين بغية الثأر منهم بعمليات سياسية وغير سياسية قاسية، تكفل صرفهم مع نظامهم الفاسد من الخدمة إلى الأبد!
تساءلت امام المتحاورين: هل بات جنون الحكام وقضاتهم في لبنان يقابله جنون من معارضيهم؟ وهل هذا هو المخرج من أزمةٍ مزمنة تزداد تعقيداً وخطورة ويزداد معها اللاعبون في ملعبها تطرفاً وجنوناً؟ فاجأني كهلٌ بين المتحاورين بجوابٍ سريع: أن هذا الشاب المتحمس هو الأشد تعقّلاً بيننا، وما قاله هو عين الصواب!
كاتب لبناني
القدس العربي