حرب السودان جريمة مكتملة الأركان
بعد أن اِدلَهَمَّت سماوات السودان بسحابات الهموم المشبعة بأنين شظف العيش وخطاب الكراهية وصرخات الحرب، وبعد أن أعمى الحقد بصر وبصيرة من أطاحت بهم الثورة بقوة الحراك السلمي وطردتهم شر طردة تصحبهم اللعنات، فتمكنت منهم الرغبة في الإنتقام من الشعب والوطن، وأن يعودوا إلى كراسي الحكم ولو على حساب دم الشعب المسفوح وفوق جماجم الوطن، وقعت الكارثة واشتعلت الكريهة، وصار ينفخ في كيرها ويزكي نيرانها ويوجه دفتها، أزلام نظام الإنقاذ، المستمسكون بمطامعهم الأنانية، المستبيحون الوطن والمسترخصون حياة المواطن. هي حرب لن ينتصر فيها طرف، وإن هُزم الطرف الآخر، ولكن قطعا الخاسر فيها والضحية هو الشعب السوداني والوطن.
أما إذا تمعنت وتفكرت قليلا في طبيعة هذه الحرب، وأخذت بعين الاعتبار التحضيرات العلنية والسرية التي كانت تعد لها ما استطاعت من قوة ومن رباط الخيل، لتكشفت أمامك مجموعة من الملاحظات ولطرأت على ذهنك جملة من الاستفهامات، ذات الدلالات الواضحة:
أولا، لا يمكن أن يكون السبب الحقيقي وراء إندلاع هذا الدمار هو الخلاف بين قيادتي القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع حول الترتيبات العسكرية ومواقيت دمج قوات الدعم السريع في القوات المسلحة السودانية. فالقيادتان رضعتا من ذات الثدي، ويربط بينهما حبل سري، وصنعا معا تاريخا مشتركا في دارفور، وفي القتال معا من ذات الضفة في حرب اليمن، وكذلك أثناء ثورة ديسمبر/كانون الأول 2018 وانتصار خطوتها الأولى، كما يتشاركان ذات العلاقة الخاصة والقوية مع حلفاء خارجيين، في الجزيرة العربية وفي شرق البحر الأبيض المتوسط. هذه السمات المشتركة، وغيرها كثر، كان من الممكن أن تجعل من النقطة موضوع الخلاف في الترتيبات العسكرية أمرا ثانويا يمكن معالجته بكل بساطة وسهولة، إضافة إلى أن مسألة دمج القوات أصلا ليست بذلك التعقيد العصي على الحل.
ثانيا، الحرب لم تندلع بسبب الخلافات حول الإتفاق الإطاري، وإنما اشتعلت لتحرقه وتحرق مجمل العملية السياسية بصيغتها قبل الحرب، بل ولتصيب حراك الشارع بالشلل، تمهيدا لحرق ثورة ديسمبر/كانون الأول 2018، وعودة تحالف الفساد والاستبداد إلى سدة الحكم، إما عبر عصابات الموت وكتم أنفاس الشعب، أو عبر عملية سياسية جديدة وفق صيغة «لا تستثني أحدا» في إشارة إلى حزب النظام البائد. أنظر إلى اقتحام السجون وإطلاق سراح أركان النظام المباد والمحكومين في قضايا قتل شباب الثورة وتعذيب السودانيين حتى الموت. وأنظر إلى من يؤججون النيران ويرفضون الهدنة ووقف إطلاق النار ويرفضون أي وساطة بين الطرفين، ويوصمون القوى السياسية المدنية بالخيانة ويطالبون بإعدامها.
خلق آليات للتنسيق والتحالف مع الجهود الخارجية الدولية والإقليمية، للتوافق حول آليات الضغط الممكنة على طرفي القتال لإخراس لعلعة الرصاص
ثالثا، هي حرب إزداد معها الحريق المشتعل أصلا في دارفور، وغدا سيزداد اشتعاله في ولايات كردفان، وتتأجج نيرانه في ولايات النيل الأزرق، قبل أن تمتد ألسنته إلى كل أطراف البلاد المهيأة لذلك، ووقتها سيحل مصطلح «السودنة» بدلا عن «الصوملة».
رابعا، هي حرب تجسد دخول السودان فعليا مرحلة اللادولة، ولكن نافخي كيرها لا يهمهم أن يحكموا دولة أو لادولة، فقط يحكموا ولو رقعة جرداء، إثر الهروب الكبير لآلاف السودانيين من البلد بحثا عن الأمان خارج حدوده، بعد أن كان ملاذا لملايين اللاجئين من الدول المجاورة.
خامسا، هي حرب قبل طرفاها، وللمفارقة، بالوساطة الإسرائيلية، وفي ذلك دلالة ذات معنى.
سادسا، وفي جانب منها، هي حرب بالوكالة عن أطراف خارجية عينها على أراضي السودان الشاسعة الخصبة ومياهه الوفيرة ومعادنه النفيسة. ويعزز من ذلك، موقع السودان الجيوسياسي محاطا بالصراعات العرقية والدينية والسياسية وبحروب المحاور بالوكالة، وبصراعات القرن الأفريقي والنزاعات المتفاقمة في منطقة الساحل والغرب الأفريقي، وبانتشار التنظيمات المتطرفة في جنوب ليبيا وإقليم تبستي بتشاد، وبتنظيمات القاعدة وبوكو حرام وسيلكا في غرب أفريقيا وبحيرة تشاد وأفريقيا الوسطى، وبتمركز حركة الشباب الصومالي في شرق أفريقيا، ووجود جيوب وبقايا جيش الرب اليوغندي في شرقي أفريقيا الوسطى، ومع وجود خلايا نائمة للتنظيمات المتطرفة في البلاد. وأصلا موقع السودان الجيوسياسي، جعله في متناول نزاعات وصراعات الموانئ وأمن الممرات المائية الدولية في البحر الأحمر والخليج العربي، والتنافس الحاد بين أمريكا من جانب وروسيا والصين من الجانب الآخر، في الجزيرة العربية وفي منطقة البحيرات في أفريقيا، وحول المعادن والمنابع الجديدة للطاقة وطرق نقلها، وللسيطرة على السوق العالمي وممرات التجارة الدولية، وتعامل الولايات المتحدة الأمريكية مع الصين كمهدد استراتيجي لمصالحها، وسعيها لعرقلة المشروع الصيني الضخم، مشروع الحزام وطريق الحرير الذي يمر بالسودان وأجزاء من القارة الأفريقية، والصراع العربي الإسرائيلي، والمواجهة بين الديمقراطية السياسية وتيارات الإسلام السياسي في المنطقة، خاصة وأن من ظلوا يحكمون السودان لثلاثة عقود لم يكونوا بعيدين عن هذه التيارات ولاتزال دولتهم العميقة نشطة تحلم بالعودة للسلطة.
سابعا، هي جريمة مكتملة الأركان وتستوجب المساءلة والعقاب.
مجموعات كثيرة تنادي بضرورة محاسبة ومحاكمة من تسببوا في الحرب ومن يؤججون نيرانها، وبعضهم بصدد رفع قضايا أمام المحكمة الدولية، وكل هذا مقبول ومطلوب. ولكن، الأولوية القصوى الآن هي كيفية وقف الحرب وإنقاذ حياة السودانيين، خاصة السكان المدنيين الذين إمتلأت شوارع الخرطوم بجثث الكثيرين منهم، وتأمين ممرات إنسانية لمدهم بالدواء وضروريات الحياة. صحيح أن الجميع ينادون بتأسيس أوسع جبهة لهذا الغرض، وهي مناداة صحيحة وواقعية، ولكنها قطعا بديهية، لأن لا بديل لها. وعمليا، لابد من التقدم خطوات والانتقال من مربع المناداة وإصدار البيانات، فهذا المربع أنجز مهمته ولن يأتي بجديد، إلى الشروع العملي والفوري في تأسيس هذه الجبهة الواسعة، تجميعا للجزر المتناثرة التي تحركت في هذا الاتجاه. وأعتقد أن البند الأول في برنامج عمل هذه الجبهة هو خلق آليات للتنسيق والتحالف مع الجهود الخارجية الدولية والإقليمية، للتوافق حول آليات الضغط الممكنة على طرفي القتال لإخراس لعلعة الرصاص.
كاتب سوداني
القدس العربي