الشعر والقرآن الكريم
كان العرب أهل فصاحة ولسن. ومما قيل قديما يبين أن الحكمة نزلت من السماء على ثلاثة أقوام: أدمغة اليونان، وأنامل الصين، وألسنة العرب. يبدو ذلك في احتلال الكلمة والشعر مكانة خاصة في نفوس العرب. لقد كان سجل أيامهم وصراعاتهم ونمط حياتهم اليومية. تفرح القبيلة حين ينبغ فيها شاعر، لأنها تعتبره ناقل مفاخرها، ومسجل بطولاتها وتاريخها، وصوتها المنافح عنها في المحافل. لذلك كانت الذاكرة الجماعية تحفظ هذا الشعر، وتتناقله الأجيال، وكان لكل شاعر راو ينشر أقواله، ويروج لها. كما كانت، إلى جانب ملكة الحفظ، القدرة على التمييز بين جيد الشعر ورديئه، ما يدل على المكانة التي كان يحتلها في نفوسهم. ولما كانت الكتابة قليلة الانتشار قبل الإسلام، لم يصلنا ولو ديوان شعري واحد مخطوط لأي شاعر من الشعراء الذين وصلتنا أشعارهم وأخبارهم. وحتى المعلقات التي يذكر أنها كانت تعلق على أستار الكعبة لم يبق لأي منها أثر.
عندما بدأ القرآن ينزل على الرسول (ص)، أصيب العرب بـ«الصدمة الكلامية». حاولوا مقارنته بما بين أيديهم من الشعر، ومن أجناس الكلام التي كانت متداولة بينهم، فلم يجدوه شعرا، ولا سجع كهان، وإن اتهموا الرسول (ص) تارة بأنه شاعر، وأخرى بكونه ساحرا أو مجنونا. وفي كل هذا ما يدل على أن الآيات والسور التي كانوا يسمعونها كانت بالنسبة إليهم كلاما مختلفا عما اعتادوا عليه. هذا على مستوى فصاحة القرآن وبلاغته.. أما على مستوى محتواه، ومضامينه فقد رأوا فيها ما يعرفونه من أخبار الأولين (الأساطير)، وما هو من تراث أهل الكتاب، فزعموا أن الرسول يعلّمه أحد الرهبان، وأنه ينقل كلامه إليهم. ومع ذيوع الدعوة، وانتشارها، بدأت الصدمة الكلامية تقل مع الزمن، وباتوا يقرون بأنهم أمام كلام مفارق لما بين أيديهم، وأنه لا يمكن أن يكون إلا من عند الله.
بدأ الشعراء، وهم مبدعو الكلام «الأرقى» يعترفون بأن القرآن أسمى من كلامهم مجتمعين، وأنه يتحداهم أجمعين، فهذا لبيد العامري يخرسه القرآن الكريم نهائيا، ويقول بأنه يكتفي بسورة البقرة. وذاك الأعشى يفكر في الدخول في الإسلام، ولا يحول بينه وبينه إلا منع الخمر. وهذا حسان يوظفه شعره دفاعا عن الإسلام، ويستمر القرآن الكريم فارضا منزلته بين المسلمين.
من بين من يروج هذه الادعاءات يتحدث عربية سقيمة؟ ألم يكن أهل العربية، زمن النبوة، أقدر على اكتشاف ما يُدَّعى بخصوص القرآن، وهم الذين كانوا ينتقدون الشعراء حين يقعون في بعض الاستعمالات التي تخالف العربية؟
أتعجب الآن حين أقرأ من بين ما يكتب عن القرآن الكريم من لدن مستشرقين ومستعربين وعرب، وما يتداول في بعض المواقع الاجتماعية من أن فيه أخطاء نحوية وأخرى لغوية. فأين لمن يدعي مثل هذا الكلام الملكة اللغوية والجمالية التي كانت لدى العرب إبان نزوله؟ والأعجب أن من بين من يروج هذه الادعاءات يتحدث عربية سقيمة؟ ألم يكن أهل العربية، زمن النبوة، أقدر على اكتشاف ما يُدَّعى بخصوص القرآن، وهم الذين كانوا ينتقدون الشعراء حين يقعون في بعض الاستعمالات التي تخالف العربية؟
تحقق للقرآن الكريم ما لم يتحقق للشعر، رغم المكانة التي كانت له عند العرب، فكان كل ما يسمعونه عن الرسول (ص) يحفظونه، تقربا إلى الله، من جهة، ومن جهة أخرى لأدائه في صلواتهم. وكان جمع القرآن والاتفاق على مصحف عثمان دليلا على الإجماع على صحة روايته. ورغم كل ما يقال عن المصاحف المختلفة، وما عرفته من زيادة ونقصان، واختلاف نرى أن كل ما كان متداولا منذ البعثة مرورا بالفتوحات هو القرآن الموجود حاليا بقراءاته المختلفة. وما تيسر للقرآن الكريم لم يتحقق على الوجه نفسه بالمقارنة مع جمع الشعر وتدوينه. فلم يصلنا على نحو ما يؤكد أبو عمرو بن العلاء من الشعر إلا أقله. وما وصلنا منه أثيرت ببعضه قضية النحل، ولذلك نجد بعض الاختلافات في رواية بعض الأبيات، أو القصائد، ونسبتها إلى قائلها، ما يدل على أن عملية الجمع والتدوين كان العرب يحرصون فيها على التحري والتدقيق.
مع تطور الدولة الإسلامية، ظهرت علوم تعنى باللغة العربية وأجناس كلامها، ونال الشعر المكانة الأولى من الاهتمام بالقياس إلى الخطابة، أو غيرها من الخطابات النثرية. فظهرت الصنعة النصية التي تتركز على جمع أشعار الشعراء، أو صناعة المختارات، من جهة، أو على تصنيف الشعراء حسب مواقعهم إلى طبقات، من جهة ثانية. وكانت الدراسة بعد ذلك التي تنهض على أساس النقد، والتمييز بين الجيد والرديء، أو الموازنة بين الشعراء، أو شرح الأبيات. فكانت البلاغة والنقد من أهم ما أنتجه العرب بخصوص الشعر. ما كان لهذه العلوم والمعارف الخاصة بالكلام العربي لتتحقق لولا المكانة التي صارت للقرآن الكريم في النفوس. لقد كان الحافزَ لبروز كل العلوم التي ستتطور مع الزمن. ويبدو لنا ذلك بصورة خاصة مع «علوم القرآن». لقد أدى السعي إلى فهم القرآن والإحاطة بكل ما يتصل به من أمور تتعلق بالدنيا والدين إلى بروزها، والجهود الجبارة التي بذلت خير دليل على ذلك. إننا في الانتقال من الشعر إلى القرآن الكريم، ننتقل من خطاب خاص بأمة إلى دعوة إنسانية شاملة.
كاتب مغربي
القدس العربي