اليونان وإنجاز المهمة الأوروبية القذرة
عندما تكون الصحافة مستقلة فإنها تبرز دوما في طليعة القوى التي تمكّن المجتمع المحلي، أو العالمي بإطلاق، من رؤية حقيقته في مرآة الواقع الموثق المدقق، مرآة الصدق التي لا زيف فيها ولا تشويه ولا تجميل. وعندما تكون الجريدة المستقلة قوية غنية، بحيث ينشط فيها جيش من 1700 صحافي لا يكادون يتركون مجالا من مجالات الواقع الإنساني إلا تابعوه وحققوا في أمره، مثلما هو شأن جريدة النيويورك تايمز على سبيل المثال، فإن مساهمة الصحافة في كشف الحقائق، وحتى في تحريك المسارات السياسية أو القضائية المفضية إلى رد المظالم، تكون مساهمة فعالة عزيزة النظير.
ومن أحدث الأمثلة على نبل دور الصحافة المستقلة هذا أن المفوضية الأوروبية طلبت رسميا من الحكومة اليونانية التحقيق في تقرير نشرته النيويورك تايمز استنادا على شريط فيديو حصلت عليه حصريا الشهر الماضي يظهر خفر سواحل اليونان وهم يتقاعسون عن نجدة اللاجئين المهددين بالغرق في بحر إيجه قبالة جزيرة لسبوس ويتعمدون تركهم لسوء مصيرهم، أي للهلاك المحقق. وتشير تحقيقات النيويورك تايمز إلى أن هذا التصرف اللا-إنساني (عدم إغاثة المنكوب) ينطوي على انتهاكات كثيرة لقوانين اليونان وقوانين الاتحاد الأوروبي والقانون الدولي.
ونظرا إلى أن معظم الأموال التي خصصت لإنشاء مركب خفر السواحل اليوناني الذي صور في الشريط هي أموال اتحادية أوروبية، فإن من المحتمل أيضا أن تقدم سلطات الاتحاد على التحقيق في سياسات السلطات اليونانية وتصرفاتها في مجال معاملة اللاجئين والمهاجرين. وقد دافع رئيس الحكومة اليونانية المحافظة كيرياكوس ميتسوتاكيس عن سياسات اللجوء اليونانية قائلا إنها متشددة ولكنها منصفة، وأضاف أن هذا النهج المتشدد قد لقي قدرا معقولا من القبول الحسن لدى الاتحاد الأوروبي.
صحيح أن ميتسوتاكيس أطلق هذه التصريحات في سياق حملة انتخابات الأسبوع الماضي، ولكنه لم يجانب مع ذلك الصواب. ذلك أن الاتحاد الأوروبي ينظر بعين الرضا «لنجاح» اليونان في صد معظم اللاجئين القادمين على القوارب والراغبين في الوصول إلى ما يظنون أنه بر أمان، وربما أرض رخاء، في غرب القارة الأوروبية. إذ رغم أن حكومة ميتسوتاكيس اعترفت بأنها أمرت الاستخبارات بالتنصت على أحد ساسة المعارضة، ورغم أنها أصبحت تتحكم في الإعلام بقيود القانون الزجري وبتواطؤ رجال الأعمال الذين تمكنوا من الاستحواذ على كبريات المؤسسات الإعلامية بفضل ميتسوتاكيس، ورغم أن اليونان انحدرت إلى أسفل السلم فأصبحت أقل الدولة الأوروبية حرية في مجال الإعلام، ورغم أن هذه السياسات والتصرفات هي من قبيل ما يشجبه الأوروبيون روتينيا لدى حكومات يمينية متطرفة، مثل حكومتي جورجيا ميلوني في إيطاليا وفيكتور أوربان في المجر، رغم ذلك كله فإن الاتحاد الأوروبي راض عن ميتسوتاكيس. لماذا؟ لأنه نجح في تثبيت اقتصاد اليونان، بعد أكثر من عقد من الهزات والتقلبات. أما الأهم فهو أن الاتحاد الأوروبي متساهل مع ميتسوتاكيس كل التساهل لأنه هو الذي يتولى بمفرده، نيابة عن الاتحاد بأسره، أداء المهمة القذرة المتمثلة في صد اللاجئين أو ردهم على أعقابهم أو تركهم يواجهون مصير الغرق والهلاك.
فلا عجب إذن أن تصف رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فندرلاين سياسة اليونان الحدودية بأنها «درع أوروبا». أما ميتسوتاكيس، الذي يفخر بأنه أقنع الاتحاد الأوروبي بانتهاج سياسته المتشددة (بعد سياسة «التسيب» التي سادت عام 2015 وأدت إلى استقبال مليون لاجئ أتى معظمهم عبر اليونان) فإنه يقول إنه لا يعبأ بالأوصاف التي تطلق على هذه السياسة، هل هي يمينية أم وسطية، بل إن «كل همي هو أن أحمي حدودي». والدليل على إنجاز ميتسوتاكيس وعده لمواطنيه، المبتهجين بهذه السياسة، أن أعداد اللاجئين القادمين إلى اليونان قد تناقص بما لا يقل عن 90 بالمائة! ولهذا لم تتردد مجلة الإيكونومست في وصف اليونان، أثناء السنوات الأربع من حكمه، بأنها «قصة نجاح».
إذن رغم أن جزيرة لسبوس صارت مرادفا لدى الرأي العام العالمي للمعاملة اللا-إنسانية بسبب قسوة ظروف الإقامة في مخيم موريا السيئ السمعة الذي كان يكتظ فيه حوالي عشرين ألف لاجئ قبل أن تتلفه النيران، فإن تساهل المفوضية الأوروبية مع اليونان اليوم إنما يوجه للعالم رسالة واضحة: الاتحاد الأوروبي عاجز عن مساعدة اليونان والدول الأخرى، مثل إيطاليا، التي تقع على الخطوط الأمامية لأزمة اللجوء والهجرة. والنتيجة أنه ألقى حبل السياسات الاتحادية على غارب الأنانيات المحلية.
القدس العربي