إسرائيل في مواجهة الحرب والسلام
إسرائيل كيان صهيوني متخلف عن عصر الاستعمار، لم يتمكن من التخلص من النظام الإمبريالي الفاسد، كما تخلصت منه الأنظمة الإمبراطورية والدول/ الأممية إلى غاية القرن العشرين. وإسرائيل كيان صهيوني يأبى العيش بسلام لأنه يضايقه ويحاصره ولا يقوى على العيش العادي إنْ في الداخل أو مع الخارج. فالوضع الأخير للكيان الصهيوني يؤكد بأكثر من معنى أنه نظام أبارتهايد على ما صرحت به مؤخرا مجموعة من النواب في البرلمان الفرنسي. نعم، فقد بقي له فقط أن يلحق وصف الكيان الصهيوني بالنظام التمييز والفصل العنصري حتى يستشعر الجميع بالخطر الداهم الذي لا يكف عن الاستفحال، مثل الأنظمة النازية والفاشية وما كان عليه نظام أفريقيا الجنوبية إلى أن جرى تصفيته مع المناضل الكبير نلسون مانديلا.
إسرائيل كيان صهيوني لا يرْتع عند حال أو وضع ولا يروم إطلاقا التجانس والتلاؤم مع الآخرين لأنه فاقد لذات لا تبحث عن سلام تم اغتياله عام 1995، مع اغتيال إسحاق رابين الرجل السياسي الأخير الذي كان يستطيع أن يوفر السلام والأمن لإسرائيل مع دول الجوار والعالم، ومن ثم التخلص من الاستعمار والنزعة الاستيطانية التي انتهجها الكيان الصهيوني كسياسة للهروب إلى الأمام وأفضل درب إلى تجنب السلام واستبعاد الأمن. فالحالة التي وصل إليها النظام الصهيوني هو نظام يواجه الحرب والسلام في الوقت ذاته. ومن هنا مأزقه الدائم ويزداد تأزما عندما تصمد المقاومة الفلسطينية بنفس الطريقة، أي المقاومة المسلحة والمقاومة السلمية، عندما تعني الإصرار على الحياة بكل تفاصيلها ويومياتها إلى حد أن اللغة العبرية وليس العربية فقط صارت تعبر وتتكلم أكثر عن الأرض الفلسطينية وتصنع تراثها المعاصر، لأن العالم كله يتابع أخبار المقاومة والنضال والحق الفلسطيني في وجه الظلم الصهيوني الغاشم.
وضع النظام الصهيوني الشاذ يزداد شذوذا وانفلاتا ليس على المنطقة العربية بل على العالم كله، عندما تفقد إسرائيل الرجل الذي يمكنه إخراجها من وهاد الضلالة والمروق وسياسة الانتهاك والاعتداء التي لا تعرف حدا، لأنها لم تعد لها بوصلة تهديها، بل الوضع كله آل إلى البحث عن العدوان والحرب من أجل معارك انتخابية واستحقاقات سياسية معيارها الوحيد هو إلحاق ضربات موجعة بالفلسطينيين يستقيم الوضع السياسي الداخلي على ما شهدنا في الأسابيع القليلة الماضية عندما استهدفت الآلة العسكرية قادة من تنظيم الجهاد الإسلامي لتعديل وضع في تشكيلة الحكومة اليمينية الأكثر تطرفا وغلوا منذ النكبة عام 1948.
إسرائيل كيان عدواني لا يمكن أن يعيش في عصر تجاوزه العالم منذ أكثر من نصف قرن عندما انحسر الاستعمار عن كل مناطق العالم
السياسة العمياء التي استدْرج إليها الكيان الصهيوني هي التي جعلته لا يرى من حوله ولا أين وصل هو بالذات التي لا يزال يبحث عنها ويفقدها يوميا. فالمشهد الأخير عبّر عن حالة تقزم إسرائيل في مواجه فصيل فلسطيني «صغير» هو الجهاد الإسلامي بعد ما استسلم عن توافق معنوي وضمني لحالة وقف القتال مع تنظيم حماس، وقبله مع حزب الله اللبناني. أي تراجع الكيان الصهيوني بالقدر الذي لم يعد يستطيع مواجهة الدول ولا الأحزاب التي تسبب في تحويلها إلى قوة عسكرية ضاربة مثل حزب الله في لبنان وحماس في فلسطين. والمقبل أفدح وشائك.
عندما يفقد النظام القدرة على السلام يفقد توا وحالا القدرة على المواجهة العسكرية والمواجه الحربية. ولعل هذا ما يشرف الثورة الفلسطينية الدائمة في قدرتها على الصمود مع تسجيل نقاط على درب الشرعية العالمية والإنسانية في مواجهة إسرائيل بوجهها المسلح وبوجهها المعادي للسلام أيضا. فقد فرض على الشعب الفلسطيني وقيادته وممثليه في هيئات السلطة الوطنية أن يخوض محنة السياسة ومحنة السلاح، كما فرضت عليه من قبل النكبة عام 1948 والنكسة عام 1967، وهو إلى اليوم لا يزال يقاوم لأنه متعلق بحق عرف كيف يدافع عنه، ليس لأنه حق فحسب، بل عرف كيف يعترض على باطل أيضا بالوسائل الدبلوماسية والسياسية والتدابير الإنسانية والعلاقات التضامنية.
إسرائيل كيان عدواني لا يمكن أن يعيش في عصر تجاوزه العالم منذ أكثر من نصف قرن عندما انحسر الاستعمار عن كل مناطق العالم. وهذا الشذوذ عن الوضع العام هو الذي أدخل في السنوات الأخيرة، السلطة العبرية في أزمة حادة لم تعرف كيف تخرج منها إلى الآن. فقد بقي هذا الكيان عصيا على الحكم ولم تستقر حكومة لحظة إلا وتسقط في لحظة أخرى في تعاقب جهنمي يبحث عن التطرف الأقصى والغلو الأعمى والتشكيلة القيادية التي ترغب في إعدام القانون واعتقال القضاء على ما هي حكومة نتنياهو الحالية التي لا تزال تتلمس لنفسها الخيار الغاشم لتصفية القضية الفلسطينية.
عندما يكون كيان سياسي على شاكلة الكيان العبري الذي يصر على يهوديته عندما تشتد عليه المصائب وتتأزم وتتعقد عليه الأوضاع، فإنه يبعث من هذا الكيان ما يدنس ويفسد كل من يحاول الانتصار له ودعمه على النمط الذي أرتكبه الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب الذي راح يتباهى بسياسة عرجاء تأخذه العزة بإثم دعم غير معقول وغير محدود لإسرائيل، أفضى به في نهاية المطاف إلى ضرب مؤسسات الدولة الأمريكية التي اشتهرت بالديمقراطية والتي عبّرت عن أمة عظيمة. فقد سقط الرئيس نفسه وأراد أن يسقط أمريكا نفسها عندما تصرف على النمط الإسرائيلي وأراد أن يماثله في تصرفات الكيان العبري ويتجاوب مع مطالبه غير الشرعية.
أراد الرئيس ترامب أن يستند إلى قوة داهمة لا تعرف حدا، بل استثمر فيها كأقصى ما يمكن أن يوفره المال وتتجاوب معها الأعمال، وأفضل ما يدخل صاحبه إلى نادي الكبار الذي يستبيح ترويض المال. فقد خاب وانهار الرئيس الأمريكي السابق عندما أراد أن يحاكي ويجاري نظاما صهيونيا لا يليق بالعالم كله أن يؤمن له الوجود الشرعي على ما تفعل القوى الكبرى في هذا العالم بالذات. إن أنظمة حكم لا تحترم العدالة والحق والإنصاف، لا تلبث أن تطمح إلى ارتكاب حماقات تدخلها في حروب لا طائل من ورائها إلا الويلات والأوجاع والعنف والدمار والخراب. وفي الغالب يقدم النموذج الإسرائيلي في ذلك، على ما فعلت روسيا في عدوانها الطائش ضد أوكرانيا وقد كان مبررها أنه لا يليق بالغرب استنكار الفعل الروسي وشجب الدعم لأوكرانيا بعد سكوت نفس الغرب، ولآماد طويلة حيال الظلم البغيض والعدوان المتواصل على الشعب الفلسطيني. وهذا نوع من مأساة جديدة يرتبها الوباء الإسرائيلي ويدفع ثمنه كل العالم. نعم أمريكا يمكن أن تنهار بسبب الولاء المطلق للكيان الصهيوني، ونفس الكيان يمكن أن يبرر أطرافا أخرى على تبرير أعمال عنف وإرهاب على ما فعلت روسيا إزاء اعتدائها على أوكرانيا.
كاتب جزائري
القدس العربي