الاستحمام بدماء الموتى!
يتكرر السؤال في الجزائر: هل ما زلنا في حاجة إلى كتابات أخرى عن العشرية السوداء؟ عن السنوات العشر، في تسعينيات القرن الماضي، التي طغت فيها لغة السكين والرصاص، عن الضحايا العزل الذين خطفت أرواحهم آلة العمى، عن أيام الخوف تحت سماء حكمها التطرف. وهو سؤال مفخخ، لا يختلف عن تلك الأكياس المفخخة التي أودت بحياة الأبرياء، فكلما همّ كاتب بإصدار عمل عن تلك الحقبة واجهه الناس بسؤال آخر: ماذا بوسعه أن يقدم جديداً؟ هكذا ـ إذن ـ نتعامل باستخفاف مع تاريخنا، ندفن موتانا ثم ننفض أيدينا، كما لو أن شيئاً لم يحصل.. نمحو أسماءهم ونستحم بدمائهم كي نتخلص من ذكراهم، ونُمارس رياضتنا الأثيرة في النسيان كما لو أننا نُداري خجلاً من ماضينا.
لم تعد الكتابة عن العشرية السوداء تجربة أدبية، بل تهمة، كما لم يعد الكاتب في موضع الحديث عن نصه إن كتب عنها، بل في موضع التبرير كمن اقترف جرماً. يجد نفسه محل تهمة أنه كتب عن مرحلة خيمت كوابيس على عقول الناس وظنوا فيها أنهم هالكون ـ لا محالة ـ مهما طال بهم الزمن. ولا يقتصر الأمر على الأدب وحده، بل كذلك في السينما والمسرح، يود الجميع القفز فوق هذه السنوات، وشطبها من مخيلتهم، اتساقاً مع خطاب رسمي يسعى إلى ردمها، ونعزل بالتالي المبدع عن ذاكرته، عما عاشه، ننتظر منه فقط نصوصاً في الفرجة، أو في التاريخ القديم، المهم ألا يخوض في ما حصل عشرية التسعينيات.
العنف المستمر
كنت دائماً مشغولاً بالمخيلة الأوروبية في تعاملها مع وقائع الحرب العالمية الثانية، التي جرت في زمن يسبق العشرية السوداء بخمسة عقود، مع ذلك لا يزال الكتاب، من لشبونة إلى موسكو، يعودون إلى سنوات تلك الحرب، وإلى غاية اليوم لا تزال تصدر روايات عن تلك المرحلة، فالمئات من الروايات صدرت وأخرى في طريقها إلى الصدور عما وقع في أوروبا آنذاك. وإن تساءلنا عن السبب فلأن تاريخ تلك الحرب لم يتوقف، لم تنته في عام 1945، بل إن تداعياتها ماثلة أمامنا إلى اللحظة، في تلك الصراعات المحتدمة بين يمين ويسار، بين عودة الفاشية كفكرة ومناهضتها، وفي إحياء أفكار نازية من قبل أحزاب سياسية متطرفة، في أكثر من بلاد أوروبية. بالتالي فإن الكاتب لا يقصد من خلف عودته إلى الحرب العالمية الثانية الكتابة عما جرى من أحداث، في تدوين كرونولوجي، أو مقاربات لتلك الوقائع، بل إنه يستعير تلك الحرب في سرد واقعه، فالكاتب شاهد على الأزمنة التي يحيا فيها. تماماً كما هو الحال في الجزائر، فإن العودة إلى العشرية السوداء ليست ـ بالضرورة ـ فتحا للجراح أو تكرار ما سبق قوله، بل هو تأكيد أننا لم نشف من تبعات تلك الحرب الأهلية، وما نزال نُصارع آثارها في جلودنا وعقولنا وفي مخيلتنا وفي يومياتنا. فالتطرف الديني لم يتراجع خطوة إلى الوراء، والعنف ضد المرأة كذلك، سياسة الترهيب باسم الدين تواصل نشاطها، وإن توقفت لغة الرصاص والسكاكين، فإن ذهنيتها العامة تبقى سائدة، ولا شيء تغير فعلاً على أرض الواقع. إننا نعود إلى العشرية السوداء التي شهدت فيها الجزائر الموت بالمجان، في استعارة عما نعيشه في اللحظة الراهنة، من علو صوت التخويف عن صوت العقلانية. فحين نشاهد ما حصل في بلدان عربية أخرى، في السنين الأخيرة، من بروز لجماعات دينية متطرفة، فلا بد ألا ننسى أن الجزائر كانت سباقة في هذه الطريق، وأنها واجهت قسوة المرحلة، ودفعت ثمنها أرواح رجال ونساء وأطفال، فالموت لم يكن انتقائياً، بل كان يستهدف الجميع، وكنا جميعاً في محل موتى مع وقف التنفيذ.
إن فهم العلاقة المشتبكة بين مخيلة الكاتب والعشرية السوداء يعفينا من الأسئلة العبثية الاتهامية التي توجه له، وهناك مأزق آخر يواجه الكتابة عما حصل في التسعينيات، وهو الخطاب الرسمي والخط السياسي العام الذي يفرض بدوره لعبة النسيان.
المصالحة والمحو
في خريف 2005 جرى استفتاء شعبي في الجزائر، على ما أطلق عليه «ميثاق السلم والمصالحة الوطنية» ترتب عنه عفو عن الجماعات الإرهابية، قصد إخماد الحرب الداخلية، وحسب الأرقام التي أعلنت عنها الحكومة وقتذاك، فقد صوت 97 في المئة من الناخبين ﺑ «نعم». هكذا دخلت الجزائر عصراً جديداً، عصر الأمان، أو ما يعتقد أنه كذلك، على الرغم من أن العمليات الإرهابية استمرت ولو بوتيرة أقل بعد ذلك التاريخ، وسارع الناس استجابة للرغبة الرسمية إلى طي صفحة التسعينيات، لكن قليلين من قرأوا كل بنود ذلك الميثاق، وما انطوى عليه من تفاصيل، لعل أهمها العفو عن صناع العنف والخوف وتعويض أهالي الضحايا، إلا أن هنالك بندا صغيرا في ذلك الميثاق، يخص الكتاب تحديداً، والمبدعين إجمالاً، جاء فيه حرفياً: «يُعاقب بالحبس من ثلاث سنوات إلى خمس سنوات وبغرامة مالية، كل من يستعمل، من خلال تصريحاته أو كتاباته جراح المأساة الوطنية». نفهم منه أن كل من يكتب عن العشرية السوداء، سوف يتعرض لمتابعات من طرف النيابة العامة، وإن كرر فعلته فسوف تضاعف العقوبات المنصوص عليها. على ما يبدو من أنه بند غير واضح المعالم، فمن شأنه أن ينطبق على كاتب يتطرق في عمله إلى محنة التسعينيات، في مسعى واضح وصريح نحو دفع الناس إلى تناسي ما حصل، ومنع كل من يجرؤ على استعادة الماضي. مع أنه للأمانة لم تحصل ـ لحد الساعة ـ أي متابعة أو مساس بحرية أي كاتب تعرض للعشرية السوداء، أو ما يُسمى بالمأساة الوطنية ـ كما جاء في أدبيات السلطة. لكن قبيل الاستفتاء على ميثاق السلم والمصالحة الوطنية، وفي إطار التحضير له، طرأ مصطلح جديد بين الأوساط النقدية والصحافية نقصد منه: «الأدب الاستعجالي» الذين أطلقوا ذلك المصطلح وأشاعوه كانوا يرجون من الكتاب عدم استعجال الكتابة عما يحدث، عدم الاصطفاف مع طرف ضد آخر، عدم الانحياز إلى الضحايا، والمكوث في دكة الانتظار إلى أن تنتهي الأزمة، ثم ركوب قاطرة المنتصر. هم أشخاص لم يكن لهم موقف واضح عما يجري، وبدل الدفاع عن الأبرياء فضلوا الحياد، ووصف كل من يُخالفهم في الرأي بالاستعجال في الكتابة، ثم جاء ميثاق المصالحة وضاعف من سطوة أصحاب ذلك المصطلح، فصاروا مثل «شرطة الأدب» وغايتهم تحييد الأدباء من العودة إلى عشرية الجمر. راحوا يصفون كل كتابة عن تلك الحقبة بأنها استعجالية، على الرغم من أن الأحداث انتهت، وأن الدماء جفت. ولا يزال المصطلح ذاته تتداوله الألسنة، في مسعاها إلى مسايرة النظرة الرسمية وكبح كل كتابة جادة عن سنوات الموت، كما لو أن الضحايا لم يكونوا أكثر من أرقام، في تنصل قاطع من تاريخهم ومن ذاكرتهم إزاء شعبهم.
روائي جزائري
القدس العربي