كيف تعامل بريطانيا طالبي اللجوء من البلدان التي «حررتها»؟
حين دُعيت، منذ ثلاثة أشهر، للمساهمة في نشاط منظمة بريطانية تدعى «حكايات اللاجئين» لم أتوقع إنني سأزور طالب اللجوء الذي من المفترض أن أكتب حكايته، في سجن بحراسة أمنية مشددة، تُفرض عادة على المجرمين. سجن، مُقام قرب مطار غاتويك ـ لندن، إلا أنهم لا يسمونه سجنا بل يُطلقون عليه اسم «مركز بروك». وهو في الحقيقة سجن يُعامل فيه طالب اللجوء بشكل أسوأ من السجون الرسمية، وتصفه تقارير المنظمات الحقوقية بأنه مكان «يدفع اللاجئ الى الجنون» إذ لا يخضع لذات المقاييس في التعامل مع المعتقلين، التي تُفرض على بقية السجون البريطانية، وفق القوانين والرعاية الصحية، لأنه يُدار، من قبل شركة أمنية خاصة.
تطّلب الدخول إلى « المركز» تصريحا خاصا، وأن أكون برفقة شخص معروف لدى إدارته. اقتضاني اللقاء بطالب اللجوء في قاعة يوجد بها حراس وكاميرات، المرور بأربع بوابات أمنية محكمة، والتفتيش الجسدي الدقيق ووضع كل ما لدي في خزانة بردهة الاستقبال الأولى. كان عليّ، في تلك القاعة، في ذلك الظرف ألخانق، أن أتعرف على طالب اللجوء، أن أُشعره بالأمان ليثق بيَ. وأن يطمئن إليَ، وأنا أحاول الخطو على مهل لمعرفة تفاصيل رحلته، ليسمح لي مشاركة وجع قلبه، بعيدا عن المكان والجنسية ونقاط التفتيش وحدود السجن الكونكريتية المصبوبة للتمييز بأنواعه.
كان من شروط اللقاء عدم إبلاغي بجنسية طالب اللجوء قبل اللقاء، وأن أكتب حكايته كما يريدها هو، بمفرداته وأحاسيسه، وأن يوافق على أن تكون الحكاية المكتوبة، حكايته هو، لتتم قراءتها، في مختلف المدن البريطانية سواء من قبلي أو من قبل أدباء بريطانيين آخرين، متطوعين ضمن المنظمة. وتتم قراءة الحكاية اثناء أسبوع اللاجئين، الذي يُقام كل عام حول يوم اللاجئ العالمي في 20 حزيران/ يونيو. وهو أكبر مهرجان للفنون والثقافة في العالم، يحتفي باسهامات وإبداع وصمود اللاجئين والأشخاص الباحثين عن ملاذ، في بريطانيا. وهي مفارقة تثير الاستغراب والمرارة، وتُنبه إلى الهوة المتزايدة اتساعا بين الشعوب والحكومات، حتى الديمقراطية منها. حيث تواصل الحكومة البريطانية سياستها الحالية من طالبي اللجوء، وإصرارها على ترحيل طالبي اللجوء إلى رواندا، المؤجلة قضاياهم، على مدى سنوات أحيانا، مع استمرار احتجازهم في ظروف وصفها المتحدث باسم منظمة العفو الدولية بأنها «غير إنسانية» بذريعة كونهم غير قانونيين مما دفع الأسقف كريستوفر شيسون، إلى التنديد بسياسة الحكومة اللا أخلاقية، قائلا إنه «لا يوجد شيء في القانون يسمى «طالب لجوء غير قانوني» بل فقط طالب لجوء».
التقيت في « المركز» بطالب لجوء شاب من أريتريا، لم يتم إصدار قرار بشأنه منذ عامين. وهو يعاني من الكآبة ووضع نفسي متدهور وبالكاد يستطيع التكلم. كان أقرب ما يكون إلى إناء مكسور، شظاياه متناثرة في أرجاء المكان، وعلى المستمع تجميع ما يتمكن من التقاطه ومحاولة إعادته إلى ما كان عليه. وهي مهمة شبه مستحيلة لعدم إمكانية العثور على كل القطع. أخبرني أنه يقضي معظم نهاره نائما وأمله الوحيد أن يتلقى خبر إطلاق سراحه. تبين لي فيما بعد أن الأدوية المسموح بإعطائها للمعتقل محددة وهي إما حبوب باراسيتامول لتسكين الألم أو مهدئات الأعصاب أو المنّومة. وهي للتخدير أكثر من العلاج وتهدف إلى تسهيل سيطرة الحراس على الموجودين.
كان لقائي الثاني مع « ح». وهو طالب لجوء من مدينة البصرة، جنوب العراق. التقيت به في مكان حددته المنظمة خارج السجن، إذ تم توفير سكن مؤقت له ولابنه، البالغ من العمر عشر سنوات، بعد قضاء عامين، تقريبا، في السجن. كان تواصله الوحيد مع ابنه خلالها عبر مكالمة هاتفية تستغرق عشرين دقيقة، مرة كل أسبوعين، بوجود مترجمة تنقل ما يدور بينهما.
استغرقت رحلة «ح» للهرب من العراق والوصول إلى بريطانيا طلبا للجوء خمس سنوات. ولايزال يعيش حالة انتظار نسيجها الخوف والقلق والكآبة وعدم الاستقرار إذ لا يعرف ما الذي سيجلبه الغد. عن حالة الانتظار هذه حدثني «ح» أثناء اللقاء الأول وما تلاه من زوم وعدة مكالمات هاتفية. كيف أنه لم يخاطر بحياته وحياة ابنه اختيارا بل كان مجبرا على مغادرة عائلته وعمله ومدينته وأصدقائه، بعد أن اختطفت إحدى الميليشيات ابنه وهو في طريق عودته من المدرسة. كيف اضطر وعائلته لبيع كل ما لديهم لدفع مائة ألف دولار للميليشيا لتطلق سراح ابنه. كيف عاشوا خمسة أيام من الجحيم بانتظار استلامه وهم لا يعرفون إذا كان سيكون حيا أو جثة كما حدث لآخرين. ولم تكن تلك النهاية، بل تلقى تهديدات أخرى بالاختطاف حالما عاد إلى عمله التجاري. وكيف أنه لم يأت طلبا لمعونة اللاجئين الأسبوعية الهزيلة، وأنه يريد أن يعمل لكي ينهي حالة الانتظار المؤلمة ويستعيد حياته..
أراد مني «ح» أن أسرد حكايته، وكيف أنه بحثا عن ملاذ آمن، هربا من الموت، وصل إلى بريطانيا ليعيش تفاصيل موت من نوع آخر. وأنه يريد من قبوله كتابة وقراءة حكايته أن يتواصل مع الآخرين لكي يفهموا الأسباب التي تجبر الأشخاص على النزوح والتحديات والمخاطر التي يواجهونها في رحلة بحثهم عن الأمان. وهذا هو بالضبط ما قمت به، في حكايته التي ستُقرأ أثناء أسبوع اللاجئين ثم تُنشر بعنوان «انتظار». ليس اعتقادا بأن كتابة حكايته سيُحدث تغييرا جذريا في سياسة الحكومة البريطانية تجاه طالبي اللجوء أو تجاهه هو بالتحديد، ولكن لأن ما تقوم به « حكايات اللاجئين» وبقية المنظمات المدافعة عن حق اللجوء، هو خطوة ثقافية صغيرة يأمل المشاركون فيها أن تؤدي الحكايات إلى الانفتاح المجتمعي من أجل المحافظة على قيم إنسانية، تكاد سياسة الحكومة أن تلوثها. إيمانا بأن سرد الحكايات، هو واحد من أقدم سبل التعبير البشري، وأنه ليس مجرد ترفيه، بل مشاركة معلومات بطريقة تساعدنا على اكتساب فهم أعمق لتجارب الآخرين ولأنفسنا، بالإضافة إلى خلق تواصل عاطفي يُنبه إلى أهمية القيم التي تكاد سياسة الحكومات اللا أخلاقية أن تلوثها.
القدس العربي