تركيا: الانتصار العظيم للديمقراطية
ما أسفرت عنه الانتخابات الرئاسية الأخيرة في تركيا هو إضافة البناء الأخير للتجربة الديمقراطية في زمنها المعاصر الذي لا ترتبط بشخص بقدر ما أنها تستقل بذاتها كمؤسسة لصالح تركيا البلد والأمة والشعب والدولة. فما كان ينقص المسار الديمقراطي الذي انتهجه حزب العدالة والتنمية بقيادة زعيمه السيد رجب طيب اردوغان هو دخول مرشح هذا الحزب إلى الدور الثاني لحسم المنافسة بينه و بين المعارضة السياسية. فقد كان التفاوت الضئيل جدّا، الذي ظهر في الدور الأول بين الرئيس المنتهية ولايته والسيد كمال كليتشدار أوغلو، مؤشرا حقيقيا على التجربة السياسية وما رافقها من روح الإنصاف والموضوعية والنزاهة الأخلاقية والاستعداد الدائم للاعتراف للآخر في حالة فوزه وتهنئته.
اكتملت التجربة الديمقراطية في تركيا باكتمال العمر السياسي للسيد رجب طيب اردوغان باعث نهضة تركيا المعاصرة ومؤسس الديمقراطية فيها بعد النجاح الباهر والكبير الذي أفصحت عنه انتخابات شهر أيار/ مايو الأخيرة سواء منها الرئاسية أو التشريعية، تجربة اجترحت فيها الدولة التركية الجزء الناقص من مؤسساتها ونقصد الديمقراطية ليس كخطاب ودعاية وادعاء بل كواقع تحقق في صلب الهيئات والمراجع والمجالس التي تعتمد نظام المداولة والتعاقب وتبادل المسؤوليات وفق ما تقتضيه الديمقراطية بمعاييرها وشروطها وأخلاقياتها. الدعامة الجوهرية التي حظيت بها الديمقراطية في مسار الرئاسيات الأخيرة هي مشاركة الشعب الهائلة والرائعة فيها، أضفى عليها في التعبير الأخير والمطاف النهائي حالة من الاستفتاء أو التعبير الديمقراطي المباشر بعدما وصلت نسبة المشاركة في التصويت إلى ما يناهز التسعين في المئة.. المشاركة القوية على هذا النحو هو التعبير القوي عن الديمقراطية التي تبقى مسألة المشاركة هي التي تُسْهِم في إرساء الديمقراطية أو اضمحلالها.
وعليه، فإن نسبة المشاركة العالية وروح التوثب إلى الفوز لدى كافة الأطراف التي دخلت حلبة المنافسة، وغياب إمكانية حسم النتيجة خارج صناديق الاقتراع هو السند الأعظم الذي رافق التجربة السياسية الأخيرة في الرئاسيات التركية ومَنَحَها الشرعية والمشروعية على السواء، لأن التجربة لم تقتصر على ما هو سياسي فحسب بل شمل أيضا ما هو قانوني و أخلاقي وأعراف اجتماعية ومزاج تُرْكي، برز أكثر ما برز في الشعارات والخطابات و التصريحات والهتافات والحوارات التي خاضت بها الأطراف المتحَفِّزَة إلى فوز مرشَّحيها.
وصلت نسبة المشاركة في التصويت إلى ما يناهز التسعين في المئة.. المشاركة القوية على هذا النحو هو التعبير القوي عن الديمقراطية التي تبقى مسألة المشاركة هي التي تُسْهِم في إرساء الديمقراطية أو اضمحلالها
اقتراب النسبة بين المنتهية ولايته(52،18 ) والمعارض (47،82) يؤكد حقيقة، طالما كانت غائبة في عالمنا العربي وكثير من بلدان العالم المتَخَّلف بسبب غياب الديمقراطية وليس بغيرها، ونعني بهذه الحقيقة إمكانية وصول المعارضة إلى الحكم وزمام السلطة ومن ثم إدارة الشأن العام على أساس من الشرعية والمشروعية، لأن مؤشر النسبة الممكنة موجودة في النتيجة الأخيرة التي تقارب نصف ما حصّل عليه الرئيس نفسه. وصول المعارضة إلى الحكم في جولة قادمة لا يعد مفاجأة و لا استثناء ولا ضربة في مجهول لم يكن متوقعا، بل حالة قائمة ويمكن أن نسير على منوالها إلى آخر العهدة و لا يمكن أن تحسم عملية البقاء أو الخروج، إلا عبر انتخابات تمليها وتحددها مؤسسة الديمقراطية نفسها، التي صارت المرجع الشرعي والمشروعي الذي يحتكم إليه الجميع.. موالاة ومعارضة على السواء لأن الديمقراطية في الحالة الأخير هي للدولة والأمة والمجتمع يعتمدها الجميع للجميع ولا تقبل أي احتكار، كما أنها تفلت من أي تمليك أو انتهاك.
الواقع يؤكد، من جملة ما يؤكد، أن اكتمال مؤسسات الدولة التركية المعاصرة وفق تجربة حزب العدالة والتنمية وزعيمها السيد رجب طيب اردوغان، ناجمة برمتها عن التنمية الشاملة التي حالفتها خيارات حكيمة تواصلت مع حقائق المجتمع التركي في كافة أبعاده وعمقه الحضاري والثقافي. نعم، استقرار تركيا الأخير على الديمقراطية جاء من واقع التنمية التي طالت ما هو مادي وغير مادي، استراتيجي ما يتعلق بالدولة وما يحيل إلى الدين، وبعبارة واحدة الاستثمار في الكل التركي والانفتاح على العالم كله أيضا. وهذا النوع من التنمية هو الذي يرسخ القيم والمبادئ والمعايير والمناهج، وفي الأخير يعمل على استقرار «الاستقرار» نفسه، الأمر الذي يؤدى إلى متانة المسار وحصانة الدولة من الداخل، على ما قدمته شواهد المحاولة الانقلابية لعام 2016. فقد خابت المحاولة بفعل التنمية الراسخة الصلدة التي عززت المؤسسة الأمنية والعسكرية ضمن إطار ومضمار ومجال الأمة و عمقها الوجودي والاستراتيجي في المنطقة.
اكتمال التجربة السياسية في وجهها الأخير المتعلق بالديمقراطية هو الذي سوف يرشح تركيا إلى توسيع الممارسة السياسية على الجميع من أجل أن يصل كل مواطن إلى استخدام حقه في تقديم الخبرة واقتراح البديل والشعور بالمسؤولية حيال الذات التي لا تكف عن النمو والتطور والنضج وحيال الأمة والدولة والعالم لأن لحظة العولمة كما تعيشها تركيا لحظة مع العالم تظهر خاصة في شبكة من الأواصر، لا تكف عن مد المزيد من العلاقات الاقتصادية والسياسية والثقافية. ففي كل المجالات للدولة التركية نصيبها من التقييم والفعل والاقتراح على ما هي اليوم كل الدول المتقدمة المتوثبة إلى تشكيل المجتمع الدولي الجديد لما بعد نادي «المجلس الدولي». والديمقراطية الراسخة هي أفضل حصن وسند للاضطلاع بهذا الدور.
في الأخير، وهذا هو المهم، الديمقراطية كما أفصحت عنها الانتخابات الأخيرة في تركيا هي مرآة تقدم دائما الشاهد على إمكانية وصول العالم العربي أو أحد دوله إلى نفس المصاف الذي وصلته تركيا كبلد نامي مع الديمقراطية وليس ضدها، مع مؤسسة الأمن والجيش وليس فوق الدستور ومؤسسات الدولة المرتقبة. فالعالم العربي بكافة بلدانه لا يزال يرنو إلى إرساء معالم الدولة التامة والمكتملة بسبب غياب الديمقراطية التي لا تزال عصية عن الإرساء و التأسيس في مرافق الدولة ووجدان الشعب.. ومن هنا يبقى المثال التركي مثالا مهما ومعياريا وحافزا على الإمكان، لأن الحالة التركية في مستواها الأخير يمكنها أن تستثمر وتحصد الكثير من التراث والمال العربي وتاريخه وجغرافيته. تركيا كنظام جمهوري راسخ و حالة ديمقراطية قائمة لم تعد ذلك البلد الشرقي الذي أبّده الغرب في أدبياته وحولياته بل تركيا هي أيضا بلد غربي يجتمع فيه الشرق والغرب كنهاية أسطورة تساعد العرب من الاقتراب من الغرب، ولا يحيدون في مجالهم الشرقي.
كاتب وأكاديمي جزائري
القدس العربي