كوريا وحربها الناعمة معشوقة العالم
أقوى أنواع الحروب هي النفسية، لأنها تجعل العدو ينساق وراء أفكار زائفة ويصدقها لدرجة تجعله يتماهى معها، وكأنها حقيقة ثابتة. والسر وراء ذاك الانسياق هو أن الأفكار التي يطرحها أباطرة الحروب النفسية تعتمد على إحدى نقاط ضعف العدو، ومن خلالها تغذّي وجدانه بمفاهيم من شأنها السيطرة على أفكاره. ومن ثم، يتهاوى العدو، لأن القدرة العقلية على التمييز تتعطل بها إمكانية التفكير السليم.
وعلى هذا، تعد الحرب النفسية من أقوى الحروب الناعمة، التي يشحذ فيها الخصم كل أدوات الحرب الناعمة كي يصل إلى مأربه. ويجب الأخذ في الاعتبار أن الحروب النفسية ليست في الأساس غاية أحد الخصوم يصلَى بها من يقف حجر عثرة في طريقه، فقد تشنها بعض الدول الصديقة أو الحليفة على بعضها البعض بهدف ضمان نفوذ ثابت الأركان من الصعب زعزعته.
المؤسسة الحكومية في كوريا الجنوبية دعمت جهود صنّاع الدراما فافتتحت لهم قنوات بث عالمي
وهذا بالضبط ما تفعله كوريا الجنوبية من خلال آلتها الإعلامية التي تحمل لواءها الدراما الكورية. ومن الجدير بالذكر أن الدراما الكورية حديثة العهد على الساحة العالمية، لكنها استطاعت في فترة وجيزة أن تستقطب جميع الفئات العمرية والاتجاهات الفكرية والأذواق. والسبب هو أن الدراما الكورية تتبع التركيبة الكلاسيكية للتأسيس الدرامي وهي: مزج الدراما بالواقع، لكن بطريقة مبتكرة تجعل المشاهد يقفز من مقعد المشاهد ويتحول إلى مشارك في الحدث الدرامي. وبهذا، يفتح العمل الدرامي بوابات الخيال أمام المشاهد. وحالما يتخطى عتباته، يمج المشاهد الرجوع لعالم الواقع المرير، ويفضل التماهي مع عالم من الخيال الشيق.
وما يسهل للمشاهد دخول ذاك العالم هو نسيج من شخصيات واقعية لكنها ليست راشدة التفكير، وتحتفي بأخطائها وتحاول أن تصلح من نفسها، لتتغلب على تلك الأخطاء. وفي هذا السياق، يصبح من الأساسي رسم شخصيات تتمتع بحس فكاهي، مع وجود فاصل كوميدي، حتى ولو كان سياق الأحداث حزين. وبهذا، فإن اللعب على أوتار المشاعر هي خلطة من الاستحالة أن تخيب، حتى في أكثر الدول تقدما وإيمانا بالواقعية، وخاصة إذا كانت الشخصيات التي ينطوي عليها العمل تشابه إلى حد بعيد الشخصيات الخيالية المتواجدة في الحواديت التي كان ينصت لها الأطفال في مراحل العمر المبكرة. وعلى هذا، تخاطب الدراما الكورية الطفل بداخل كل فرد. وما يزيد من تأججها هو أن كل حلقة تنتهي بشكل شبه مفاجئ مخلفة وراءها حدث شديد الأهمية، يجعل المشاهد ينتظر نتيجته وتواقا لمعرفة ما سوف يحدث، فيتابع المسلسل في اليوم التالي. وبهذا، تجعل الدراما الكورية المشاهد يتفاعل مع الأحداث، فينقلها من عالم الخيال إلى الواقع.
وما يزجي قوة الدراما الكورية هو صناع عمل حريصون على أن يحقق كل عمل درامي، بلا استثناء، نجاحا منقطع النظير. وعلى هذا، يقوم صناع العمل بمراقبة نسبة المشاهدات وتفاعل المشاهد مع كل حلقة على نحو يومي. وفي حال ملاحظة أي تدن، ولو طفيف، في نسبة المشاهدة، يعمل صناع العمل على حث الكاتب على تغيير الخط الدرامي وإضافة تطور مفاجئ يتوافق مع ذوق المشاهد وميوله، مما يعني أن الحلقات تتم كتابتها وتصويرها وإذاعتها في نفس الأسبوع، دون المساس بجودة العمل.
تجدر الإشارة الى أن الأعمال الكورية تتناول جميع ألوان الدراما، الكوميدية والرومانسية والتراجيدية والحركة والبوليسية والتاريخية وكذلك الخيال العلمي. وتلك الدراما ليست من نوع «أوبرا المسلسلات»، التي تدور في فلك حلقات كثيرة وأحداث قليلة، كما هو المعتاد في الدراما الغربية ودراما أمريكا اللاتينية. فالدراما الكورية لها عدد محدود من الحلقات يتراوح فيما بين 16-24 حلقة، لكن في حالة الدراما العائلية أو التاريخية قد تصل إلى أكثر من 50 حلقة.
لم يكن هناك إقبال دولي على الدراما الكورية، وكان أول الغيث عرض مسلسل «كوري في الصين» عام 1993، بالرغم من أن الصين مجتمع محافظ يمنع عرض المسلسلات والأفلام الغربية. لكن، وقع الاختيار على الدراما الكورية لخلوها من مشاهد العنف والجنس والألفاظ الخارجة. أضف إلى ذلك تناولها لقصص لا تحتاج لمراقبة وتتناسب وجميع الفئات العمرية. ولهذا السبب عينه أقبلت عليها اليابان وكذلك المجتمعات المحافظة في الشرق الأوسط مثل مصر ودول الخليج. وكانت المفاجأة هي احتفاء المجتمع الإيراني بها. لقد بدأ عشق الشعب الإيراني للدراما الكورية منذ بداية عرض مسلسل تاريخي تماهى معه أبناء هذا الشعب. وبسبب أن الدراما الكورية تعزف على أوتار المشاعر رحبت بها شعوب أمريكا اللاتينية التي تهوى الأعمال التي تفيض بالمشاعر. لكن هذا ليس السبب الوحيد، فالدراما الكورية تباع بسعر زهيد، فسعر الحلقة الواحدة منها نحو دولار أمريكي واحد، في حين أن بعض الدراما الأخرى تباع الحلقة الواحدة منها بآلاف الدولارات. وأما المفاجأة الأكبر فهي إقبال الغرب – منذ بداية الإغلاق أثناء تفشي وباء كورونا – على مشاهدة الدراما الكورية بنهم، وخاصة ومنذ ذاك الحين أدمنوها.
ومع ذكر جهود صناع الدراما، يلاحظ أن المؤسسة الحكومية كانت تؤازرها، فافتتحت لها قنوات بث عالمي وساندت قطاع صناع الأعمال. ومن الطريف أن رئيس الوزراء الياباني في أحد الأيام أشار خلال خطبة موجهة للشعب الى أن أحد الممثلين الكوريين يفوقه شهرة بين أبناء بلده. وعندما زار الرئيس الكوري «روه مو-هيون» Roh Moo-Hyun المكسيك عام 2005، تجمع أمام مقر إقامته الآلاف من المكسيكيين يلحون في طلب السماح لبعض الممثلين الكوريين عينهم أن يزوروا المكسيك.
ولقد كسبت كوريا حربها الناعمة عندما استطاعت أن تجعل من نفسها قوة عالمية كاسحة من خلال الدراما، التي جعلت منها وجهة سياحية يشغف السائحين من جميع أنحاء العالم زيارتها لرؤية الأماكن التي ظهرت في المسلسلات، بل وأقبل العالم على ألوان الطعام والمشروبات الكورية التي تظهر في الدراما، فعشقوها، وافتتِحت لها مطاعم ومحال سلسلة عالميا. ومهد ذلك إلى إقبال عالمي على الأغاني والموسيقى الكورية، فأصبحت الفرق الغنائية الكورية مثل «بي تي إس» BTS و»بلاك بينك» Blackpink عناصر جذب عالمي للحضارة والثقافة الكورية، وسفراء للشعب الذي أحبه العالم وتاق أن يتعلم لغته، بل وتتمنى السائحات أن تصادف رجلا كوريا تتزوجه.
الحروب والمكاسب الاقتصادية والسياسية لا تتطلب سلاحا أو بذخا في الإنفاق، فالبساطة والصدق وتصدير مستوى أخلاقي حميد أقوى حليف. لغة المشاعر وعدم الإسفاف مع التصميم على النجاح وتذليل العقبات هم السر وراء نفوذ عالمي مكين القوة.
كاتبة مصرية
القدس العربي