ازدواجية معايير عربية أيضا
اعترضت آلة قتل المدنيين الفلسطينيين الحربية في دولة الاحتلال الاسرائيلي بالقوة المسلحة قافلة "أمواج الحرية الى غزة " المكونة من سفينة "ساويرس " الايرلندية وسفينة "التحرير " الكندية وعلى متنهما (27) ناشطا دوليا منهم برلمانيون وصحفيون. والهدف المعلن لهذه القافلة مثل ثلاثة عشر قافلة سبقتها هو كسر الحصار العسكري الذي تفرضه دولة الاحتلال كعقوبة جماعية على مليون ونصف المليون مدني فلسطيني في قطاع غزة منذ ما يزيد على عقد من الزمن بالرغم من ادعائها بأنها قد "انسحبت " منه.
وبغض النظر عن وصول هذه القافلة الى القطاع أو عدم وصولها، فإنها تذكر بازدواجية المعايير الأميركية والأوروبية التي لجأت الى الغزو والاحتلال في العراق وأفغانستان والى التدخل العسكري المباشر في ليبيا بحجة "المسؤولية عن حماية المدنيين " بينما تعارض حتى التدخل السياسي والدبلوماسي، بل وتعارض أي انتفاضة شعبية فلسطينية "سلمية "، ضد إرهاب الدولة والقتل خارج القانون والتجويع والترويع الجماعي والفردي والتهجير المنظم للمواطنين من الأرض المحتلة والنقل المنظم للمستوطنين اليها وغير ذلك من أشكال جرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية والانتهاكات الصارخة لحقوق الانسان التي ترقى في إجمالها الى جريمة إبادة جماعية للشعب الفلسطيني والتي تمارسها دولة الاحتلال الاسرائيلي جهارا نهارا في انتهاك صارخ للقوانين الدولية والانسانية وشرعية الأمم المتحدة ضد ملايين الفلسطينيين منذ مدة طويلة تزيد على عمر الأنظمة السياسية العربية، بل تزيد حتى على عمر دول عربية عديدة، تدعي الدول الغربية اليوم أنها "مسؤولة عن حماية المدنيين " فيها وتسوغ بهذه الذريعة غزوها واحتلالها وتدخلها العسكري فيها.
وإذا كانت قافلة "أمواج الحرية الى غزة " تذكر ملايين المدنيين الفلسطينيين المعاقبين جماعيا لعقود طويلة ومريرة من الزمن بازدواجية المعايير الغربية بعامة والأميركية – الأوروبية بخاصة كحالة دائمة لا يتوقعون تغييرها في أي وقت منظور، فإنها تذكرهم أيضا بالصحوة الرسمية العربية المفاجئة على "المسؤولية عن حماية المدنيين " العرب.
وإذا كانت دول عربية تتهم هذه الصحوة بازدواجية المعايير العربية بسبب انتقائيتها عندما تهب الى نجدة المدنيين في هذه الدول لكنها تتقاعس عن نجدتهم في اقطار عربية أخرى، فإن ملايين المدنيين الفلسطينيين الرازحين تحت العقوبات الجماعية يتابعون بحسرة تصل أحيانا حد النقمة هذه الصحوة العربية، التي أخذتها النخوة والغيرة على المدنيين حد الاستقواء بالتدخل العسكري العربي وغير العربي، غير أنها لا تزال حتى الآن عاجزة ومشلولة ومتعامية عن الابادة الجماعية الجارية منذ ما يزيد على ستين عاما للمدنيين من أشقائهم عرب فلسطين المحتلة، ممن أيقظتهم هذه الصحوة العربية المفاجئة على "المسؤولية عن حماية المدنيين " على حقيقة وجود ازدواجية صارخة في المعايير العربية أيضا.
فالدول العربية التي انساقت مع الحرب الأميركية العالمية على "الارهاب " لم تستطع حتى الآن التمييز بين الارهاب الفعلي وبين المقاومة الوطنية العربية للاحتلال الأجنبي فباتت تتنصل من أي "شبهة " علاقة لها بالمقاومة الفلسطينية أو العراقية أو اللبنانية خشية الاتهام الأميركي – الاسرائيلي لها بالارهاب حتى ولو كانت قلوبها مع هذه المقاومة، لكنها وهي تضن على المقاومة الفلسطينية حتى بمرور السلاح من أراضيها اليها للدفاع عن شعبها فإنها لا تربأ بنفسها عن تسليح "ثورات الربيع العربي " علنا وبسخاء.
لا بل إن الدول العربية التي أجمعت على "السلام كخيار استراتيجي " مع دولة الاحتلال الاسرائيلي لم يعد الكثير منها يجد حرجا في الذهاب الى الحرب كتفا الى كتف مع القوى الغربية الداعمة لدولة الاحتلال دعما لمشاريع "تغيير الأنظمة " الأميركية في دول شقيقة بقوة الغزو والاحتلال.
إن ازدواجية المعايير العربية تفرض نفسها على الشعب الفلسطيني خصوصا في هذه الأيام التي انسدت فيها أية آفاق "للسلام " مع دولة الاحتلال، حيث يحذر عنوان فلسطيني بارز للسلام ومفاوضاته مثل عضو اللجنة التنفيذية لمنظة التحرير د. صائب عريقات من أن دولة الاحتلال تحضر لعدوان اسرائيلي جديد على قطاع غزة ويجري هو و "القيادة الفلسطينية اتصالات مع مختلف أطراف المجتمع الدولي " للحيلولة دون وقوعه، وهذا هو المجتمع الدولي ذاته الممثل في اللجنة الرباعية الدولية التي يقول وزير خارجية السلطة الفلسطينية في رام الله د. رياض المالكي إنها "لم تنجح حتى الآن في تحقيق شيء " والتي سيعبر مفاوض منظمة التحرير عن رأيه فيها وفي ممثلها توني بلير "في الوقت والزمان الملائمين "، وحيث يقول رأس الدولة في الأردن، الذي وقع معاهدة صلح منفرد مع دولة الاحتلال، الملك عبد الله الثاني إنه "متشائم جدا " من آفاق السلام ويعتبر تخلي مصر عن معاهدة مماثلة "امكانية قوية جدا، جدا " ويحذر بدوره من امكانية اندلاع الحرب إذا ظل الوضع الراهن على حاله، وحيث تعبر وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كوندوليزا رايس عن "خيبة أملها " في رعاية ادارة باراك أوباما ل "عملية السلام " وتحذر أيضا من أن "الوقت ينفد " لاستئنافها والفجوة تتسع بين مفاوضيها.
وفي هذا السياق، فإن ما كشفته روث دايان، أرملة وزير دفاع وخارجية دولة الاحتلال الاسرائيلي الأسبق موشى دايان، في مقابلة معها أجرتها مجلة نيوزويك الأميركية في الثلاثين من الشهر الماضي - - عن الكتاب الذي بعثه العقيد الليبي الراحل معمر القذافي هدية لها عام 2008 "وبعثت له ملاحظة شكر " على كتابه الذي "وصف فيه خطته للسلام " و "كتب انه يجب علينا جميعا أن نعيش معا ونستفيد من مواردنا المشتركة " - - لم يكن هو أهم ما جاء في هذه المقابلة، بل هو قالته أرملة "فاتح " غزة والضفة الغربية وسيناء وهضبة الجولان وجنوب لبنان:
قالت روث دايان: إن "الحكومة الاسرائيلية الحالية لا تعرف كيف تصنع السلام. إننا ننتقل من حرب الى حرب.أعتقد أن الصهيونية قد استهلكت قواها... بالنسبة ل(رئيس وزراء دولة الاحتلال بنيامين) نتنياهو، السلام مجرد كلمة. أنا أرفض سياسته، إنها وصفة لكارثة، إنه غير مستعد للتعاطي مع هذه المسألة. إنها عقلية الغرفة المحصنة تحت الأرض. وذلك (وزير خارجيته أفيغدور) ليبرمان ... أنا أسميه "دوبرمان " (كلب حراسة ألماني): كيف يمكن لرجل كهذا أن يمثل بلدنا؟ ... إنه دوبرمان مجنون ... لقد ازداد عدد المستوطنات من 60 الى 200، والحواجز العسكرية في كل مكان، وحرية الحركة لا وجود لها عمليا. والعنف لا يزال هو لغة الكلام الوحيدة " مع العرب.
لكن روث دايان لا تدرك أو أنها تدرك لكنها تتجاهل أن نتنياهو وليبرمان ليسا حالة شاذة طارئة في تاريخ دولة الاحتلال، بل هما ممثلان صادقان لحالة عامة، فحسب آخر استطلاع للرأي أجرته صحيفة يديعوت أحرونوت يؤمن 66% من يهود دولة الاحتلال أنه لن يكون هناك أي سلام مع الفلسطينيين على الاطلاق، وهما نتاج شرعي للعقلية نفسها التي قادت الآباء المؤسسين للصهيونية ودولتها على حد سواء، تماما مثلما يثبت اليوم القادة الأميركيون والبريطانيون والفرنسيون، بازدواجية معاييرهم، أنهم نتاج شرعي لأجدادهم الذين اصدروا وعد بلفور في مثل هذه الأيام قبل أربعة وتسعين عاما.
إن الوضع العربي الرسمي يدرك الحقيقة الصهيونية وكذلك الحقيقة الأميركية، ويدرك أن معاييره التي تأخذه الى الحرب بين العرب والى "السلام " مع أعدائهم أجمعين هي معايير مزدوجة. وقد آن الأوان لفرض "تغيير " ازدواجية المعايير تجاه فلسطين وعربها وقضيتهم، غربية كانت أم عربية، غير أن تغيير التعامل بازدواجية معايير مع الشعب الفلسطيني لن يتوقف إلا إذا قرر عرب فلسطين أنفسهم التوقف عن التعامل مع هذه المعايير المزدوجة، ومقاومتها، ومثل هذا "القرار الفلسطيني " هو وحده القادر على "تغيير وجه المنطقة والشرق الأوسط بأسره " كما توقع الناطق باسم رئاسة منظمة التحرير، نبيل أبو ردينة، في ال "بي بي سي " مؤخرا، ومثل هذا القرار يقتضي أولا وحدة الصف والموقف، وعندها فقط يمكن التعامل مع توقعات أبو ردنية بصدقية، وعندها فقط يمكن أيضا أن يتفاءل الشعب الفلسطيني ب "ربيع عربي " حقيقي، حتى في "عز الشتاء ".