ولما اشْتَدّ ساعِدُهُ .. رماهُ

- كنا نتمنى على الشاعر العربي الذي قال" أعلمه الرماية كل يوم ولما اشتد ساعده رماني أن يبدل الكلمة الاخيرة بحيث تصبح رماهُ.. فالابن العاق أو التلميذ الأرعن الذي يطيش على شبر حبر لا يرمي غير نفسه، حتى لو كان آخر من يعلم بذلك، فمن حققوا ذواتهم عبر التاريخ ومكثوا ولم يتحولوا الى زبد هم هؤلاء الذين اعترفوا بالفضل لمن تعلموا منهم وأجمل تعبير في هذا السياق هو ما قاله الفرنسي بول فاليري عندما رد على أحد أساتذته الذي امتدحه وقال انه تخطاه.. بأنه اذا أصبح أطول قامة منه فلأنه يحمله كالطفل على كتفيه!
وحين قرأ ميلر أعمال رامبو بعد سن الثلاثين أقسم بشرف المهنة وبالدين أنه ما كان ليكتب حرفاً واحداً مما كتب لو انه قرأ رامبو قبل ان يشرع في الكتابة.
لكن العقوق عندما يتحول الى ثقافة فاسدة ومقررة يشمل اضافة الى الوالدين أوطاناً ومعلمين وأسلافاً، فيظن المصاب بجرثومة النبت الشيطاني أنه اول من غنى أو كتب أو رسم أو عزف، ولأن الطبيعة كما التاريخ لهما قوانين ونواميس لا تكترث بالعابرين والزبد فهما يعاقبان من يتعجل الميراث بقتل الأب. ومن يقطف الثمرة الفجة قبل أوانها والتي عَفّ عنها حتى الطير الجائع..
وثمة مسرحية لجان جينيه لا تقبل الاختصار وان كنت مضطرا الى ذلك في زمن يقال فيه ان لا وقت للقراءة رغم ان هنا من فائض الوقت للثرثرة في الموبايل ساعات وللتسكع على الارصفة ساعات وللعب الورق لقضاء الوقت ساعات..
هي ان من يُفتن بمعلمه ويتقمص شخصيته ويحاكيه كالطفل، تأتي لحظة يتمنى فيه قتله.. والخادمة في مسرحية جينيه فعلت ذلك، لكنها عندما قررت قتل السيدة التي كانت تقلدها وتتقمصها في غيابها اكتشفت ان السيدة قد تغلغلت في كيانها، وان قتلها يتطلب الانتحار.. وهذا أدق تعبير عما رودت لو أن شاعرنا قاله وهو وحين اشتد ساعده رماه..
في السياسة ثمة مسوخ وأشباه ما أن يغيب النموذج الذي فُتنوا به حتى يقتلوه مرة اخرى، كي يتأكدوا من انه قد دفن تماماً، ولن يقوم من قبره لافتضاح الكوميديا التي تتشكل من محاكاتهم وتقليدهم وفي الثقافة يكون المجال أوسع لهذه السلالة من الببغاوات التي وصفها الشاعر أحمد شوقي بأن عقلها في أذنيها فهي ليس لديها ما تقول على الإطلاق.. لهذا فإن الصدى هو قدرها!
لماذا نعض اليد التي امتدت الينا لتنقذنا من الغرق أو النار في لحظة ضعفنا؟ ولماذا قال لنا أجدادنا بموعظة حاسمة ان نتقي شر من أحسنا اليه؟
وكيف يمكن للمعارف والخبرات ان تتراكم وتتنامى وتترسخ لها تقاليد اذا كانت ثقافة السطو والتقمص وقتل الجميل كيلا يفتضح القبيح والأمين كيلا يكون الضد الذي يكشف نقيضه هي التي تسود؟
لقد قلناها وسنقولها مراراً ان الحياة قادرة على انصاف من استحقوها والكتابة قادرة على ذلك. لأنها بحسب تعبير سان جون بيرس تمجد وتخلد من حملوا أعباءها.. فالعصافير لم تغادر السماء وتخلي مكانها على الأغصان العالية رغم تربص الغربان والحدآت والنسور والأفاعي بها والذهب الذي صنعته الصين كبديل موسمي للذهب يفقد قيمته لمجرد ان يُشترى باعتراف صانعيه، وما من طلاء مهما بلغت المهارة في انجازه يصمد أمام قطرة عرق أو أظفر طفل.. معذرة لشاعرنا ولمن حفظوه اذا اقترحنا تغيير آخر كلمة فيما قال عمن يتعلم الرماية وهو ليس من أهلها.
فلما اشتد ساعده .. رماه وما رماني!( الدستور )