الفلسطينيون و«المسألة السورية»

بعد مصر، تأتي سوريا كثاني أهم ساحة من ساحات “الربيع العربي” بالنسبة للفلسطينيين...دولة طوق ومواجهة، ساحة رئيسة لما كان يعرف بمحور “المقاومة والممانعة”، فضلاً عن وجود أزيد من نصف مليون لاجئ فلسطيني على أرضها، وهي فوق هذا وذاك، دولة حاضنة لقيادات عدد من الفصائل الفلسطينية الأساسية...لذا كان طبيعياً أن تتجه أنظار الفلسطينيين إلى هذا البلد العربي الجار والشقيق، وأن تُحبس الأنباس بانتظار معرفة أين يتجه.
مسكونون بـ”هواجس” التجربة الكويتية و”كوابيسها”، جنح الفلسطينيون ممثلين بفصائلهم الرئيسة وممثلهم الشرعي الوحيد، للنأي بأنفسهم عن “التدخل في الشؤون الداخلية للأزمة السورية”....المنظمة والسلطة اللتان تفهمتا حاجة الشعب السوري للإصلاح والحرية والكرامة، لم ترغبا في اتخاذ أي مواقف، قد ترتد وبالاً على اللاجئين الفلسطينيين في سوريا، وترتب إضفاء مزيدٍ من التعقيد في علاقات المنظمة بالنظام.
حتى حماس، التي تجد نفسها تحت وابل من الضغوط الإخوانية، القطرية، التركية وغيرها، التي تستهدف إقناعها بـ”الانسحاب من سوريا” والتنديد بالنظام والانضمام لقائمة الداعين لإسقاطه، حتى هذه الحركة، نجحت في الحفاظ على مواقف متوازنة، تتبنى -من دون لبس- تطلعات الشعب السوري للحرية والكرامة، و”تحفظ الجميل” لنظام، تحمّل بدوره أشد الضغوط لطرد حماس من دمشق وإغلاق مكاتبها، من دون أن يرضخ لأي منها.
وحدها فئات على هامش الخريطة السياسية والفصائلية الفلسطينية، ذهبت بعيداً في هذا الاتجاه أو ذاك...فصائل محسوبة على دمشق، وتأتمر بإمرتها، تتطوع للقيام بدور “الشبيحة” دفاعاً عن النظام وفي مواجهة الانتفاضة والثورة السوريتين....ورموز في رام الله رأت في أحداث الرمل الجنوبي (مخيم اللاذقية) مدخلاً ومبرراً لتصفية حساب قديم جديد متجدد من النظام، وأصدرت من التصريحات ما يكفي لوضعهم في خانة واحدة، مع شبيحة المعارضة.
في جوهر المواقف، لا تُظهر معظم الفصائل الفلسطينية الرئيس امتناناً عميقاً للنظام السوري، بل أنها تميل لرفض هذا النظام ونبذه، ولو كان الأمر بيدها، لصوتت من دون تردد لصالح رحيله...فثمة سجل تاريخي من العداء والاحتراب ونزف الدماء...وثمة فصول دامية في العلاقة بين دمشق والقيادة الفلسطينية، لا تسمح على الإطلاق، بافتراض “علاقات خاصة ومميزة”.
كاتب هذه السطور، شاهد عيان على ثلاثة من أفظع فصول العلاقة السورية – الفلسطينية: التدخل السوري في لبنان ضد المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية (مذبحة تل الزعتر اقترفت بالرعاية السورية)....الانشقاق في منظمة التحرير والذي انتهى بمذبحة نهر البارد والبداوي وطرابلس، بدعم سوري ورعاية كاملة واشتراك مباشر في الحرب على ياسر عرفات، حتى إخراجه للمرة الثانية في غضون عام واحد إلى البحر (المرة الأولى فعلها شارون في حرب الاجتياح والحصار)...وحرب المخيمات التي شنتها حركة أمل (1985 – 1987)، بدعم سوري مباشر، وكانت مخيمات برج البراجنة وصبرا وشاتيلا، من أبرز ضحايا ذلك الفصل الدامي.
الصراع على منظمة التحرير الفلسطينية، كان على الدوام واحداً من محددات العلاقة السورية – الفلسطينية، وفي مواجهة دمشق، أكثر من غيرها، أطلق الراحل ياسر عرفات، شعاره الشهير: استقلالية القرار الوطني الفلسطيني...فالنظام السوري، لم يترك وسيلة إلا واتبعها لإحكام سيطرته على منظمة التحرير والحركة الوطنية....والغريب حقاً، أن هذا الهدف جمع النظامين البعثتيين المختصمين في بغداد ودمشق، على الرغم من كثرة خلافاتهما وعمق اختلافاتهما...فأول ميدان لاختبار التقارب السوري العراقي في مفتتح ثمانينييات القرن الفائت، تجلى في فندق ميريديان – دمشق، عندما حاول طارق عزيز وعبد الحليم خدام، إحكام سيطرتهما على المجلس الوطني الفلسطيني الخامس عشر، والتحكم بمخرجاته وفرض الهيمنة المشتركة على هيئاته القيادية المنتخبة، قبل أن ينجح عرفات بالإفلات من براثن تلك المحاولة.
أما حماس، التي قيل ما قيل عن علاقاتها المميزة مع سوريا، فإن أحداً لا يمكنه أن ينكر حجم الفجوة التي ظلت قائمة ما بين الجانبين، والتي تملؤها أنهار من دماء الإخوان المسلمين السوريين، منذ حماة وحتى يومنا هذا، وربما لهذا السبب بالذات، لم يكن بوسع الحركة أن تصطف إلى جانب حزب الله، في مهرجانات الدعم والإسناد للنظام، وفي ظني أن للمسألة بعدا مذهبيا، إلى جانب أبعاده السياسية كذلك.
خلاصة القول: إن معظم الفصائل الفلسطينية، لن تلطم الخدود أو تذرف الدموع أسفاً على رحيل النظام السوري...لكنها معنية أساساً، بمعرفة هوية النظام البديل، ومواقفها واتجاهاته من المسألة الفلسطينية، والأهم من هذه وذاك، معرفة كيفية إنعكاس أي موقف تتخذه من الأزمة السورية، على مستقبل وحياة ومصالح، نصف مليون لاجئ فلسطيني، لا أحد يرغب في رؤيتهم يسجلون سطور “الهجرة الرابعة” في التاريخ الفلسطيني الحديث، بعد هجرتي 1948 - 1967 من فلسطين، و1990 - 1991 من الكويت.
(الدستور)