ساعة.. بلا عقارب
خلف لهيب النار المستعرة، وأنهار العرق المتصبب من القسمات الكادحة، وفوق أعمدة الكهرباء المحترقة أسلاكها، أو عبر الظلمة المدلهمة، ووسط ورشات المياه والمجاري المتعطلة، و خلف كل ناعقة بحريق أو إسعاف فوري.. وخلف كل ذلك يكمن إنسان لا يختلف عن كل إناس الوجود، إلا في أنه اختار الحياة الأصعب،حياة لا فاصل بين ليلها ونهارها، أو حتى بين عيدها ويومها العادي، فالإنسان القابع أمام فرن الخبز، أو فوق أعمدة الكهرباء والهاتف، أو عامل ورشة المياه والمجاري، أو رجل الإطفاء و الإسعاف... كل هؤلاء أناس فرضت عليهم طبيعة أعمالهم أن يبقوا خلف دواليب العمل حتى في أيام العطل أو الأعياد.
أولئك أيضاً أطفال ونساء العرب الرازحين تحت الآلة الحربية تزمجر أصوات نيرانها وتعبر عيونهم وقلوبهم الصغيرة رُعباً، هذا إن لم تقتحم بيوتهم وتودي بحياة أعز الناس.. الأب.. الأم.. الأخ.. أو ربما تغتالهم وهم في عز نومهم وأحلامهم التي لم تعد وردية.
في عالمنا العربي أصبح كل شيء ممكن ومستباح.. فالأطفال الذين يولدون مع تحرك عقارب الساعة يغادرها آخر.. فهم أصبحوا عقارب الساعة التي تشير إلى معاييرنا وتضبط إنسانيتنا.. فكلنا كنا أطفالاً، نرصد عالم الكبار بعيون بريئة وفرح غامر.
ولكن أطفال اليوم يحصدون جرائر أعمال وشغب وعنف الكبار.. فهم يتكاثرون، والأطفال تحصدهم المجاعة، والكبار يتقاتلون، والأطفال تفرمهم الدبابات، والكبار يتظاهرون بالفرح ويختفون خلف الأقنعة، والأطفال يخنقهم الحزن ويشرقون بالدمع، فلم يعد الفرح فرحاً.. ولا العيد عيداً.
كبر الأطفال وهم صغاراً.. أصبحوا مثقلين بالجراح قبل أن يعرفوا الفرح، شابت قلوبهم من قساة قلوب الكبار، دَعّونا أكثر من مرة لأن نرأف بلين عظامهم و لكننا شحذنا السيوف و غمسناها في ضمائرهم الغضة.. نبهونا أن الحياة لا يمكن أن تستمر بهذا الحقد الأزلي والعنف البشري لكننا أصممنا آذاننا، بعدنا عنهم وعن أحلامهم البريئة، وتركناهم راكضين وراء ما نسميه تحسين الوضع العائلي إقتصادياً.. تغربنا عنهم وأصبحنا نراهم في صور عبر أجهرتنا أو لا نراهم.
كم نحن الكبار قساة، ظالمين... ماذا في جعبتنا بعد من أسلحة دمار شامل لهذه الطفولة العربية.. ألم يكفي قتلاً وإقتتالاً ارحموا طفولتهم واغمدوا سيوفكم فهم يعشقون الحياة.. الحياة المليئة بالورود البرية وشقائق النعمان.. لا صور الدمار والدم و السحل وصوت المدافع والدبابات.