أجندة ضد الديمقراطية

- من حق "المعارضات" أن تحتفل بمرور عام على الحراك الإصلاحي، منذ انطلاقته الأولى في مسيرة ذيبان، فقد سجّل بإصرار استمراره على العمل الدؤوب.
رغم ذلك، فلا بد من تسجيل أنّ "الخاصرة الرخوة" للحراك تتجسد في تمزّقه وانقسامه على نفسه، ليس فقط إلى حدود التباين، بل التناقض في أحيان كثيرة! ورغم أنّ المعارضات التقليدية والجديدة سارت على نحو تجسير الفجوة في مطالبها (بعد أحداث 23 آذار من العام الماضي)، إلاّ أنّها عادت مؤخراً- إلى الابتعاد، بل والاصطفاف والاستقطاب على وقع الثورة السورية من جهة، والصعود المدوّي للإسلاميين من جهة أخرى.
اليوم، لسنا أمام حراك موحّد، بل لوحة شعبية مهشّمة، مغايرة تماماً للصورة التي رسمها الشارع في مصر وتونس واليمن وسورية، إذ كان هنالك إجماع على الأرض، بعيداً عن أيديولوجيات الأحزاب التقليدية، على الحرية والعدالة والكرامة، وهو ما حقّق في تلك الحالات "الاختراق" السياسي والشعبي المطلوب.
يبدو المشهد السياسي في حالة من الاستقطاب، ليس فقط داخل الحراك، بل حتى بين القوى السياسية ومراكز القرار أيضاً. فهنالك ملامح أجندة مشتركة ليست مترجمة في تحالف على الأرض بين حكومة عون الخصاونة والإسلاميين، وهنالك في المقابل أجندة مضادة للأولى تسعى إلى إسقاطها يشترك فيها "التيار اليميني" مع مراكز قرار، وهو ما انعكس على التضارب في مواعيد وأماكن الحراكات خلال لحظة الاحتفال بمرور عام على انطلاقه!
"التيار اليميني"، الذي يجمع بعض الشخصيات اليسارية والناشطين الجدد في الحراك، أخذ يعيد هيكلة طرحه السياسي في ظل المتغيرات الأخيرة، ويحدّد مطالبه بصورة مختلفة عن الحراك الآخر، بالمطالبة بحكم دستوري وعدالة اجتماعية، ومكافحة الفساد، والحفاظ على هوية الوطن (مقاومة الوطن البديل)، وهي عناوين تستبطن عملياً موقفاً حادّاً من الإسلاميين، والقلق من قانون انتخاب "يحابيهم"، وإصلاح سياسي يمنحهم حضوراً كبيراً في البرلمان المقبل. في المقابل، فإنّ التركيز لدى هذه الأجندة هو على الجانب الاجتماعي، وصفقة مع الحكم لا تستدعي بالضرورة حكومة أغلبية نيابية، بل مطالب اجتماعية واقتصادية وسياسية محدّدة.
هي، إذن، أجندة تسعى إلى تحجيم الإسلاميين ونفوذهم، وتوجيه الإصلاحات في مسار معين، مصحوبة بموقف مشابه في السياسة الخارجية يطالب بالعمل على حماية النظام السوري من الانهيار، بذريعة الخشية من هيمنة إسرائيل على المنطقة وتحقيق "الوطن البديل" عملياً في الأردن.
بالضرورة، ما تزال هنالك روافد متعددة واختلافات داخل هذا الطرح، وتباين في المواقف والدوافع، وما يجمعه مع بعض مراكز القرار هو الموقف من حكومة الخصاونة والإسلاميين معاً.
وإذا كنا لا نتفق مع جملة من الفرضيات التي يقوم عليها هذا الخطاب، فهذا لا يعني مصادرة حقه في الاختلاف وبلورة الأجندة السياسية والاقتصادية التي يريد، فالحق في النهاية للشارع يحدّد البرنامج والتصور الذي يريد أن يحتكم إليه.
المشكلة الجوهرية لهذا الطرح أنّه يريد استبعاد الآليات الديمقراطية، وفرض تصوراته على الدولة وكأنّه "الممثل الشرعي" لقاعدة اجتماعية واسعة من السكان، وهذا غير مسلّم به ابتداءً، بل هنالك داخل هذه القاعدة ألوان سياسية واجتماعية وفكرية متنوعة، وأحجام متعددة، والفيصل في هذا وذاك القدرة على تأسيس أحزاب أو تيارات سياسية تثبت شرعيتها عبر صندوق الاقتراع حصرياً.
الاستقطاب الحالي مقتل للحراك الشعبي وإضعاف له، ولا بد من تحديد الأرضية المشتركة للمطالب الإصلاحية، وصولاً إلى تعددية حقيقية وتداول للسلطة، ثم تُترك الاختلافات للآليات الديمقراطية فهي الوحيدة التي تملك شرعية الحسم.(الغد)