عسل البعوض !!!

- عُقدت ذات يوم في احدى العواصم العربية ندوة ثقافية حول التخلف الحضاري واسبابه، وما ان قدم بعض المشاركين اوراقا عن هذا التخلف حتى همس بأذني الشاعر الصديق ادونيس بعبارة لم تفارق ذاكرتي منذ ذلك الوقت، هي ان ما يقال عن التخلف هو بحد ذاته عينات نموذجية من هذا التخلف. وتذكرت على الفور شيئا مماثلاً وان كان قد حدث خارج نطاقنا القومي، فحين كتب المؤرخ جيبون عن سقوط الامبراطورية الرومانية، وجد من يقول له من ابناء جيله ان الاسلوب الذي كتب به عن سقوط الرومان يشي بسقوط الحضارة التي ينتمي اليها، ففاقد الشيء لا يعطيه ولن يعطيه على الاطلاق، ولا يشبه هذا الفاقد في أيامنا الا من تنطع من الفاسدين لمعالجة الفساد، فثمة اناس بيوتهم من زجاج هش لكنهم لا يترددون في رجم بيوت الحجر بالحصى والعرب الذين قالوا ذات يوم بسخرية ان «الاسكافي الحافي» لم يذهبوا بعيداً عن الحقيقة فنحن لا نثق بنجار أبواب بيته مخلوعة ولا بطبيب اسنان أسنانه قضمها السوس ويخجل من الابتسامة.
والآن ثمة من ينظرون للثورات ويقارنون بينها وهم آخر من يحق لهم ذلك، ليس فقط لأن ثقافتهم التاريخية شفوية وقائمة على الاشاعة، بل لأنهم تربوا في حاضنات التدجين وتشربوا عصير الخنوع ولم يفتحوا أفواههم الا في التثاؤب وهو يكثر عندما يتعلق الامر بالتنابلة. ان التخلف لا يقوى على تشخيصه متخلفون لانهم غارقون وليس بمقدروهم انقاذ غريق يستغيث بهم، فقد يسمعه الدلفين ولا يسمعونه.
ان هذا التضاد بين الوسائل والغايات من شأنه ان يعمم الفوضى ويعيد السوفسطائية الى عالمنا بحيث يصبح الفرد ومزاجه ومصالحه مقياس كل شيء وفق تعاليم هذه المدرسة ومنظريها.
ومن جربوا في الائتمان على ابسط الاشياء وخذلوا الناس ليس من حقهم تكرار التجربة على ما هو أثمن وأغلى وتتحدد من خلالها مصائر بشر وأوطان.
وحين قال الشاعر العربي لا تنه عن خلق وتأتي بمثله ثم جعل هذا الموقف مرادفا للعار لا بد انه عرف هذه السلالة أو عينات منها فهي موجودة في كل الازمنة وما يختلف هو ادواتها والاقنعة التي ترتديها.
ومن يتصدرون المشهد العربي في تشخيص أمراض المجتمع المزمنة عليهم أولا ان يعتذروا عما اقترفوا، فهم جزء اساسي من اسباب البلاء الاعظم، وليس ما نعانيه الآن الا حصاد عبقريتهم ومواعظهم، وان كانوا يتوهمون بأنهم رجال لكل العصور فان المصيبة تصبح أعظم.
ولكي لا نبتعد كثيراً عن هذا السياق، فثمة مقالات قد تكون مكتوبة بنوايا حسنة تنتقد الظواهر السلبية والفيروسات الطائفية والاثنية التي تسمم مجتمعاتنا، لكن اساليب هؤلاء اشبه بما وُصِف به اسلوب جيبون وهو يؤرخ لسقوط الرومان فلم يخطر بباله ان الطريقة التي يُعبر بها تفتضح سقوط الحضارة التي ينتسب اليها والتي صاغت له تربوياته ووعيه ورؤاه.
ليس من المسموح لأحد ان يكون السيد المسيح والاسخريوطي في وقت واحد وفي جسد واحد، فمن قلب ظهر المجن لولي نعمته وسيده لأنه فقد الصولجان والمال عليه ان يبحث عن سبيل آخر غير عذابات الناس التي كان من أسبابها.
وباختصار، ولأن سيل الدم تجاوز الزبى كلها وسيل الدمع اعمى عيوننا كفى تلفيقاً ورقصاً على الحبال، لأن جحر الفأر ليس عريناً على الاطلاق، ولأن الحمقى وحدهم من ينتظرون العسل من البعوض حتى لو علفوه بكل ما في كوبا من سكر!(الدستور )