طلاء القصدير !

- ما أن يرتطم كوز أحدنا بجرة الآخر رغم ان الاثنين من فخار لا من فولاذ حتى يظهر الجاهلي بكل عصبيته شاهراً سيفه أو مسدسه أو عصاه قائلاً.. نجهل فوق جهل الجاهلينا، فأين تذهب الثقافات الحريرية؟
ولماذا لا يصمد الطلاء الكاذب دقيقة واحدة أمام عوامل الطبيعة بحيث تعود حليمة العربية الى عاداتها القبلية وتنسى كل ما زعمت وما ثرثرت في الصالونات الأنيقة أو على الورق والشاشات؟!
وان المرء ليعجب من تلك الأزرار السحرية التي يستخدمها البعض، بحيث يستطيعون بضغطة زر منها العودة الى القرن الثامن عشر وبالضغط على زر آخر للقفز الى القرن الثالث والعشرين! وكيف تحولت ثقافة أمة الى حفلة تنكرية بحيث يتبادل الناس الادوار على مدى العمر وليس ليلة رأس السنة فقط!
ان المسكوت عنه في حياتنا بدءاً من اليومي حتى الثقافي بمجمل ما نتداوله من مفاهيم مجردة يستحق حراكاً آخر أشد عنفواناً، لأن ما يترتب على هذا المسكوت عنه هو ثقافة مضادة تكرس الرياء السياسي والنفاق الاجتماعي وتحول اللغة لوسيلة لتعميق سوء التفاهم على الطريقة التي قدمها يوجين يونسكو في مسرحية تحمل عنوان المغنية الصلعاء، وهذه المغنية الصلعاء هي اللغة عندما تتحول الى اسلوب لتهريب الحقائق والتضليل وتسمية الاشياء بعكس مسمياتها.
واذا كانت النخب العربية تشكو من أزمة ثقة مزمنة بينها وبين الناس فذلك لأنها لم تعرف السبب الذي يُبطل العجب.
والسبب ليس سراً أو أحجية تتطلب عبقريا لحلها، انه المواربة والتناقض والذرائعية وتغيير المواقف اكثر من تغيير الملابس الداخلية، لأن البوصلة أعيد تشكيلها بحيث لا تشير الى الجهات كلها تبعاً للمكان، بل هي الآن ذات سهم تجمد عند المنفعة وتحقيق الاطماع الخاصة المعزولة عن أي سياق وطني أو انساني، فمن يريدها ان تحبل حتى لو من جحش لا يهمه شيء على الاطلاق سوى المسخ أو اللقيط الذي ينتظره.
وبدلاً من وقفة نقدية واعترافات شجاعة وبفروسية بالاخطاء يحدث العكس، فتأخذ العزة بالآثام كلها من يكابرون ويصرون على المضي في الطريق ذاته.
أعرف ان دوافع التعليم الأولى لم تكن من أجل المعرفة بقدر ما هي للتأهيل الخدمي وتأجير الذكاء والمهارة لمن يدفع أكثر، لكن ما يطرح نظرياً وفي مناسبات استعراضية عن الثقافة يجعلنا أحياناً نصدق ما نسمع، لنفاجأ بعد ذلك بأن الصدمة تضاعفت، وأن فاقد الشيء لا يعطيه، ومن يعشش القمل في رأسه ليس من حقه ان يعظ الناس بالاستحمام.
ان السرعة التي يتم بها اكتشاف سخان التعصب والانكفاء تحت رخام التمدن والادعاء بالتحضر هي قياسية بامتياز لأن طبقة الطلاء أو الدهان لا تزيد على سُمك أوراق السجائر.
والاصرار على تعميق المسكوت عنه في حياتنا ومجمل ثقافتنا معناه الوحيد هو الانتحار ببطء على طريقة القط الذي تورط بمبرد من حديد واستمرأ مذاق دمه حتى الموت.
كيف نصدق ان كل هذا التعليم وكل هذه الاعداد من الجامعات والمعاهد والصحف والمجلات اضافة الى الانترنت ومشتقاته لم تكن سوى طلاء هش لأنها تتحول الى مجرد زينة موسمية في ندوات وسجالات متلفزة، وما أن يرتطم الكوز بالجرة حتى يتهشم الاثنان لأنهما من فخار وليس من اي شيء آخر!!(الدستور )