عن «التسفيه» المتبادل

- يَسِفُّ الحوار بين الإسلاميين (على اختلافهم) والعلمانيين (على تنوع مشاربهم) في بعض الأحيان، ويصل إلى مستوى "الردح" أو "التسفيه" المتبادل...وهذا آخر ما يمكن أن تحتاجه شعوبنا وهي تخوض غمار الانتقال الصعب والمكلف إلى الديمقراطية، وتسعى في تأسيس نظم بديل لنظم الفساد والاستبداد البائدة...ويُلقي هذا الإسفاف في بعض الأحيان، بظلال كثيفة وكئيبة على المشهد السياسي العربي العام، ويكاد يأتي على الإنجازات المتراكمة التي تحققت في عديد من الدول والمجتمعات العربية، لجهة "بناء الجسور" و"سد الفجوات" بين مختلف مكوناتها.
الإسلاميون في الغالب الأعم، ليس أبناء الكهوف ولم يهبطوا إلى مدننا وحواضرنا من أعالي جبال "المناطق القبلية"، بعضهم كذلك، لكنهم القلة القليلة من بين الكثرة الكاثرة منهم...وهم ليسوا أدوات بيد الأنظمة والغرب، ولا عملاء لهذا المعسكر، تأسيساً على "تحالفات الحرب الباردة"...وهم في سعيهم لبث رسائل الطمأنينة والاطمئنان وهم على مشارف السلطة والحكم في عدد من دول الربيع العربي، لا يعبرون عن توقٍ للعودة إلى تلك الأزمنة، بقدر ما يتصرفون كأحزاب سياسية، تلتقي وتفترق، تأتلف وتختلف، مع هذه القوة أو تلك، مع هذا المعسكر أو ذاك، ويجب النظر إلى سلوكهم السياسي بنفس العين والمنظار، اللذين يُنظر من خلالهما إلى سلوك ومواقف بقية التيارات السياسية والفكرية والعربية.
من هنا، رأيناهم يتبنون مقارابات هادئة، ظاهرها مخالف لخطابهم التاريخي، وباطنها فيه من "التكتيك" أو حتى "الانتهازية السياسية" ما طبع سلوك مختلف التيارات الأخرى من دون استثناء...فالعراق البعثي قاتل الغرب وتحالف معه، وسوريا البعث، حاربت إسرائيل في 1973 مباشرة، وبالوساطة في جنوب لبنان عام 2006، وكانت حاربت في "حفر الباطن" تحت الراية الأمريكية، تحالفت مع أنظمة الاعتدال (مصر والسعودية) وانقلبت على "أنصاف الرجال"، إلى غير ما هنالك، وهذا ما فعلته نظم يسارية عربية على أية حال، فقد انضوت تحت إبط رجعيات عربية (اليمن الديمقراطي)، وهي التي كانت تصدت لها حد "التآمر" في أزمنة الحرب الباردة، وهكذا الحال، إذ ليس في السياسة مواقف وتحالفات ثابتة كما تعلمون، هناك مصالح ثابتة فقط...والمصالح هنا، ليست "وطنية" دائماً وبالضرورة، فقد تتلون كذلك بمصالح الأحزاب والتيارات السياسية والفكرية، أليس هذا ما يحدث يومياً وفي كل دول العالم تقريبا؟!.
في المقابل، من السخف والابتذال تصوير العلمانيين والليبراليين كما لو كانوا "حفنة عملاء للغرب"، لا هَمّ لهم سوى الإطاحة بـ"المشروع الحضاري للأمة"، حتى وإن جاء ذلك على ظهر دبابة أطلسية (بالمناسبة هذه الدبابة امتطتها مختلف التيارات في أوقات مختلفة)...كما أنه من السخف والانحطاط كذلك، اختزال مشروعهم بنشر "الرذيلة" وتصويرهم كما لو كانوا مجموعة من "المدمنين على الخمر والنساء"...هذا ابتذال ما بعده ابتذال.
العلمانيون في المنطقة، قادوا حركات التحرر الوطني فيها، وأسسوا لتجربة الاستقلالات الأولى، وكانوا طلائع الثورة الفلسطينية المعاصرة، واشتبكوا مع أعداء الأمة، مثل غيرهم وقبل غيرهم، وربما أكثر من غيرهم...وهم على الرغم من تراجع نفوذهم ومكانتهم في مجتمعاتنا المعاصرة، والعائد لأسباب عديدة، منها على سبيل المثال لا الحصر، محاربة الغرب و"الرجعيات العربية لهم"، في الوقت الذي كان فيه ذاك الغرب وتلك الرجعيات يحتفظون بأوثق عرى الصداقة والتحالف مع كثير من التيارات الإسلامية...أقول على الرغم من تراجع نفوذ العلمانيين في منظقتنا، إلا أن عاقلاً واحداً لا يمكن أن يتخيل مجتمعاتنا خلوّاً منهم.
الديمقراطية التي يرفع لواءها الجميع اليوم، كانت هي ذاتها الضحية الأولى لممارسات وسياسات علمانية وإسلامية على حد سواء...العلمانيون لم يكونوا في غالبيتهم العظمى ديمقراطيين دائماً...والإسلاميون لم يجنحوا للديمقراطية إلا في السنوات الأخيرة فقط، فهي ليست مكوناّ صلباً و"مؤسساً" لخطابهم السياسي والفكري، ولغة بعضهم اليوم، أقرب ما تكون للغة الأنظمة البائدة، الإقصائية والشمولية، وليس من مصلحة أحد المضي في هذا السجال على أية حال، فالمطلوب الآن أكثر من أي وقت مضى هو التطلع للمستقبل.
والمستقبل الذي ننشد، وتنشده جماهير "التحرير" و"التغيير"، يتسع للجميع، وفيه مطارح لكل الأطياف والألوان، شريطة أن تؤمن بالتعددية وتحترم حقوق الاخر، وتنبذ العنف في الصراع الداخلي، وتُمسك عن التخوين والتكفير و"التسفيه"، وتقبل بالاحتكام الدوري المنتظم وغير المشروط، لصناديق الاقتراع.
مثل هذا المستقبل، تؤمن به تيارات إسلامية وازنة، وتؤمن به كذلك تيارات علمانية وحراكات شبابية وقوى صاعدة في دولنا ومجتمعاتنا، وعلينا أن نحذر من أن يتمكن "الأصوليون"، إسلاميين كانوا أم علمانيين (وثمة أصولية علمانية متوحشة)، فضلاً عن بقية المدارس والمذاهب السياسية والدينية الأشد تطرفاً...علينا أن نحذر من أن يتمكن هؤلاء من فرض أجنداتهم الخاصة على المجتمع بأسره، أو غالبيته العظمى....لا سيما أن ثمة ما يكفي من "المتربصين" بثورات العرب وربيعهم، في الداخل والخارج، الذين يتحيّنون الفرص للانقضاض على ثوراتنا، وتحويل "الفرص" التي جاءت بها، إلى سببٍ للتحدي ومصادر للتهديد.