العُزْلة في أقصى التواصل!!

- تخيل نفسك من تشاء، أرسطو المعلم الأول أو الاسكندر الكبير بقرنين أو بدونهما، وبوسعك ان تُرصّع صدرك بأوسمة هي في حقيقتها أقل قيمة من أغطية الزجاجات، وأدِّ التحية لنفسك في المرايا فأنت بونابرت بلا امبراطورية، أو ديغول بلا فرنسا، وان شئت غنّ في الحمام وأرقص طرباً على ايقاع صوتك الذي لا يسمعه سواك، وكن في الصباح فيلسوفاً وفي المساء سائس خيل أو سمسارا.. فالآن كل شيء مباح ومُتاح وقد تحققت نبوءة ديستوفيسكي التي داهمته في نوبة صرع، في ذروة الادعاء بأن العالم قرية أصبح العالم مجرات متباعدة، وفي أوج الزعم بالتواصل تفاقمت الوحدة والعزلة والآلاف الذين تحك لهم جلدهم ويحكون لك جلدك في عالم وهمي ليسوا اصدقاء يمكن لمس أصابعهم، وليس لهم ظلال تحت الشمس.
ولو عاش ولهلم رايش النفساني المتمرد الذي عاقبه الرأسماليون والاشتراكيون معاً، ولم يتفقوا الا عليه حتى أيامنا لأضاف كل هذه المواعظ الى كتابه عن الانسان الترانزستور أو بالعربي الفصيح الانسان الصغير.
نبوءات كثيرة غير نبوءة ديستوفيسكي تحققت في مطالع هذه الالفية، ومنها نبوءة جورج أرويل عن الحواسيب الكاذبة حيث يصبح حاصل جمع واحد زائداً واحد هو ثلاثة وأحياناً خمسة.
كل اليوتوبيات أو المدن الفاضلة عاشت في خيال مصلحين أو على أوراق دفاترهم وما تحقق للاسف هو النقيض أي ما يسمى ديستوبيات وهي المدن الراذلة كمقابل للمدن الفاضلة، وحين كتب فرانز كافكا رواياته الكابوسية ظن الناس ان الرجل سوداوي أو مجنون، فهو الذي جعل انساناً كامل الآدمية يصحو من النوم ليجد نفسه خنفساء مغطاة بالشعر، ولم يكن يعي بأن كثيراً من الناس اصبحوا يخافون النظر الى المرايا كي لا يجفلوا وتفاجئهم صور وقامات وملامح مرعبة.
ورغم كل ما قيل عن كابوستيه في رواية القلعة يصبح شيئاً عابراً مألوفاً بالنسبة لواحدة من قلاع هذه الالفية الثالثة، وهي قلعة غوانتينامو التي ما تزال تبحث عن روائي يكتبها.
ومن المعروف، تاريخياً أن الافراط في الثرثرة حول أي شيء يعني فقدانه وتعويض غيابه بالكلام. هكذا كان شأن الديمقراطية والشفافية وحقوق الانسان، هذا الثالوث أو المثلث المفرغ تماماً من الداخل حيث لا وجود الا لاضلاعه الثلاثة.
اكتب تاريخاً آخر مضاداً للتاريخ فلن يعاقبك أحد. ومن يدري لعل الاوسمة تنزع عن هياكل عظمية لأبطال أصبحوا بمقياس هذه الالفية وحواسيبها العمياء ارهابيين أو خونة. والذين نعوا لنا التاريخ بزعامة الياباني المتأمرك فوكوياما لم يتوقفوا عند اعلان النعي، بل بدأوا على الفور في تأليف تاريخ آخر مضاد، تصبح فيه شركة الهند الشرقية عام 1260 بداية الحضارة ويحل فيه برغمانوس الذي يعد ميكافيلي مقارنة به فارساً مكان فلاسفة الاغريق وديوان الشعر العربي وملحمة جلجامش وكل ما أنجز الفراعنة والصينيون والهنود والكنعانيون والسومريون معاً!!
إذن أنت في حلٍ من أية مساءلة، لهذا تخيل ما تشاء واكتب في عالمك الوهمي انك من اكتشف النسبية والجاذبية والذرة، وستجد حتماً من يصفق لك لأنه يبحث عن آخر يشبهه يصفق له..
وبالمناسبة فان نظرية ما يسمى الحك المتبادل اكتشفها أحد علماء الاحياء من خلال مراقبته للفئران ثم حاول تطبيقها على البشر فعثر لها على تجليات لا آخر لها وان كان بحاله المحدد في الحك المتبادل هو الثقافة.
ان الكتابة تصبح سطوراً على الماء أو الرمل في صحراء عاصفة اذا لم تقل ما يجب أن يُقال بمعزل عن تكلفته الباهظة!!(الدستور)