الانطلاقة الثالثة لمنظمة التحرير

- من القاهرة، وفي العام 1964، انطلقت منظمة التحرير الفلسطينية، كياناً شبه رسمي للشعب الفلسطيني، بعد سنوات عجاف من الشتات والتبديد والمصادرة....ومن القاهرة في العام 1969، شهدت المنظمة انطلاقتها الثانية، بانضمام فصائل الحركة الوطنية الفلسطينية بزعامة “أبو الوطنية” الفلسطينية الراحل ياسر عرفات، إلى صفوف المنظمة، لتكتسب بعد ذلك، بُعدها الشعبي المتزاوج مع بعدها الرسمي – التمثيلي، ولتصبح ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني في الوطن المحتل والمهاجر والشتات.
ومن القاهرة، في مختتم العام 2011، ستشهد المنظمة انطلاقتها الثالثة، على حد وصف الأخ خالد مشعل، بانضمام “الجناح الإسلامي” في الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة إلى صفوف المنظمة، ولينتهي التنازع الداخلي على تمثيل الشعب الفلسطيني، بعد أن حسمت المنظمة، وعبر سلسلة طويلة من المعارك السياسية والدبلوماسية والعسكرية، أمر وحدانية التمثيل الفلسطيني على المستويات الإقليمية والدولية، وليبدأ العمل الوطني والإسلامي الفلسطيني، مرحلة جديدة، من المنتظر أن تشهد زخماً خاصاً خلال الأشهر القليلة القادمة.
هذه المرة، تبدو مختلفة عن غيرها من المرات...هناك رغبة لدى القوى النافذة والمؤثرة في فتح والمنظمة وحماس، لترتيب البيت الفلسطيني الداخلي، بدءا بالمنظمة عبر انتخابات مجلسيها الوطني والمركزي ولجنتها التنفيذية، مروراً بالسلطة الفلسطينية عبر انتخابات رئاسية وتشريعية وبلدية، وانتهاء بإعادة تفعيل المنظمة وتوثيق عرى تواصلها مع الشتات واللجوء الفلسطينيين.
الطريق ليست مفروشة بالورود، وثمة عقبات محلية وإقليمية ودولية تعترض المسيرة....دولياً، لا يبدو أن واشنطن، وتحت ضغط إسرائيل أساساً، تريد لهذه المصالحة أن ترسو على مرفأ آمن، ثمة تهديدات بقطع المساعدات ورفع الغطاء، وهناك من يسعى في إحياء شروط الرباعية الدولية “وهي رميم”، وهناك رغبة في بعث “جيفة” مبادرة جنيف ورموزها الهرمة، وهناك دخول إسرائيلي أمني وعسكري دموي على الخط، لتعزيز اتجاهات التشدد على حساب اتجاهات الاعتدال داخل حماس، ومن آيات ذلك الغارات المستمرة على القطاع المحاصر، والاعتقالات الكيفية لرئيس المجلس التشريعي ونواب ووزراء من حماس في الضفة الغربية والقدس.
إقليمياً، لا يبدو أن إيران وأصدقاءها مرتاحون لانزياح حماس صوب الربيع العربي، وخطواتها المتسارعة على طريق المنظمة والمصالحة...لقد برهنت الحركة على استقلاليتها الأصيلة عن هذا المحور، وأثبتت لبعض الجهلة والمغرضين، أنها عصية على الاحتواء من قبل قوى الهيمنة الإيرانية، وأنها ليست أداة سورية أو امتدادا لنظام دمشق الأمني، بدلالة مواقف الحركة من الثورة السورية، وإصرار رئيس مكتبها السياسي على امتداح المواقف الجريئة للرئيس عباس في الأمم المتحدة، من قلب طهران، وهو على مسافة ساعات من لقاء المرشد الأعلى (ألغي اللقاء تبعاً لذلك)، الذي كان شن هجوماً عنيفاً على المنظمة والسلطة والرئاسة.
ومحلياً، هناك عراقيل على ضفتي معادلة الانقسام الفلسطيني، في رام الله كما في غزة، قيادات وجماعات تريد للانقسام أن يستمر، بعضه لأسباب سياسية وعقائدية متشددة، وبعضه الآخر لأسباب تتصل بالمصالح الانتهازية الضيقة والحسابات الشخصية الأضيق، وبعضه الثالث يمثل الطبقة التي نشأت على هامش الانقسام واتخذت منه “بيزنيسا”.
لكننا موقنون مع ذلك، أن الشعب الفلسطيني بغالبيته العظمى يدعم المصالحة والوحدة وترتيب البيت الفلسطيني من الداخل...مؤمنون بأن قناة عباس – مشعل، هي ضمانة المصالحة ورافعتها الكبرى...فعندما يتحدث أخوة في حماس عن دور الرئيس عباس بوصفه حاجة ومصلحة فلسطينية في المرحلة المقبلة، فهذا أمر يعكس مناخات جديدة كليا، لم تتنزّل بعد إلى بعض الإخوة في غزة، ولم تصل للأسف، إلى بعض الإخوان من الجماعة والحزب في الأردن، الذين ما زالوا يتحدثون بلغة سابقة لاستحقاق مايو – ديسمبر الفائتين.
وعندما يتحدث الأخ خالد مشعل، عن الحاجة لتوفير شبكة أمان للرئيس عباس، فمعنى ذلك أنه على يقين بأن الرجل يواجه ما يواجه من ضغوط، وأن الأوان قد حان، ولأسباب وطنية رحبة لا فصائلية ضيقة، لتوفير هذه الشبكة بالاستناد إلى حصاد الربيع العربي، والفرص التي وفرها لحماس، لتأمين مزيد من الحواضن العربية للمنظمة والرئاسة....وعندما يتحدث أبو مازن عن مشعل وحماس بكل هذا الانفتاح والإيجابية والتثمين لمواقفهما، وبصورة تتخطى”التكتيك” ولغته المجاملة والدبلوماسية، فمعنى ذلك أن صفحة الانقسام، طويت أو هي في طريقها للانطواء نهائياً.
على مسافة أيام قلائل من اجتماعات القاهرة مطلع الشهر المقبل، تبدو الصورة باعثة على التفاؤل والارتياح....مشعل يفكر بزيارة غزة لتفكيك عقد الرفض والتحفظ والاستنكاف...وإن تزامنت زيارته تلك، مع زيارة الرئيس عباس لغزة، أو اندمجت بها، فمعنى ذلك أن ثمة بارقة أمل جدية في طي صفحات هذا الملف المؤلم...والمصريون سيوفدون رجالاتهم إلى غزة ورام الله لتفكيك العقد الميدانية العالقة، من معتقلين ومنظمات وجمعيات أهلية ولجان انتخابات ومصالحات اجتماعية وغيرها...وانتظام عمل “الهيئة القيادية العليا المؤقتة للمنظمة” بعد اجتماع القاهرة المقبل، يعني أن عجلة المصالحة قد أخذت تدور، وربما تدور بسرعة، وثمة رهانات قيادية فلسطينية عليا على أن لا يأتي الصيف القادم، من دون أن تكون هذه الرزنامة قد استنفذت مختلف مواعيدها واستحقاقاتها.
العوائق كبيرة، من الاحتلال الاسرائيلي إلى قوى الشد العكسي الفلسطيني، وتمتد من واشنطن إلى طهران، لكن المناخ العام الفلسطيني والعربي يبدو مواتياً لا للتفاؤل الساذج بقرب حدوث المصالحة، بل للتفاؤل المبني على إرادة كل الوطنيين والمخلصين والشرفاء في صفوف هذا الشعب وأوساط أصدقائه ومحبيه الكثر، والذين تتسع مساحتهم وتأثيرهم باطراد مع تهاوي قلاع الفساد والاستبداد، ونهوض الشارع العربي الحر والسيّد، مرة وإلى الأبد.(الدستور )