26 يناير .. لنوقف عبث المفاوضات ولنشرع في ترجمة بدائلنا

- ها هي مفاوضات "الاستكشاف" تصل الى نهايتها المعروفة سلفاً، وها هي اسرائيل تسعى في كسر حاجز "26 يناير"، استمراراً لسياسة نزع "القداسة" عن المواعيد والاستحقاقات، هل تذكرون أيار 1999، تاريخ انتهاء المرحلة المؤقتة، والانتقال الى "الدولة الفلسطينية المستقلة"؟، وها هي الأطراف ذاتها، تهرع في ربع الساعة الأخير، لتدارك ما يمكن تداركه، واطالة أمد "المفاوضات العبثية"، أليست هذه هي خلاصة مهمة السيدة كارين أشتون وطوني بلير وغيرهما في المنطقة؟.
كل طرف من أطراف التفاوض، وكل راعٍ من رعاتها، يعرف تماماً أن اسرائيل لن تسمح باحداث الاختراق المطلوب على مسار العملية التفاوضية، كلهم بلا استثناء، "خبراء" في معرفة التعنت الاسرائيلي، عوامله ومسبباته ودوافعه ومحركاته، كلهم على يقين بأننا أمام جولة "عبثة" اضافية في "ماراثون" التفاوض المُذلّ وغير المجدي، لكنهم مع ذلك لا يترددون في ممارسة الضغط على الجانب الفلسطيني، للدخول في نفق المفاوضات المظلم، ولكل منهم أهدافه ومصالحه في استئناف التفاوض واستمراره، فالمفاوضات في حالتنا هذه، مطلوبة بذاتها، وليس لنتائجها، وهي مطلوبة خدمة لأهداف أخرى، ليس من بينها تمكين الشعب الفلسطيني من نيل حقوقه المُستلبة.
لقد قدم الجانب الفلسطيني كل ما بوسعه تقديمه من أجل انجاح هذه العملية، بل وقدم أكثر مما هو مطلوب منه في حالات مشابهة، وفي الجولة الأخيرة، حضر المفاوض الفلسطيني ارضاءً لعمان واحتراماً للدبلوماسية الأردنية، لا أملاً بحدوث "المعجزة"، فقد غادرنا عصر المعجزات، ولكنْ، ثمة حدود لـ"المجاملة" لا يمكن للقيادة الفلسطينية أن تتخطاها، وثمة سقف للمحاولات الفاشلة، ليس مقبولاً لأحد أن يتخطاه، وقد تخطاه الفلسطينيون كرمى للمبادرة الأردنية، ولكن الى حين، أو هكذا يجب أن يكون.
الآن، وصلنا الى لحظة الحقيقة والاستحقاق، اليوم هو السادس والعشرون من يناير، غداً لا ينبغي أن يكون مثل اليوم أو الأمس، غداً يجب أن يشرع الفلسطينيون في ترجمة أجندة أخرى، ويعملوا وفق "توقيت" آخر ورزنامة أخرى، ليس "توقيت عمان" الشتوي، ولا رزنامة المفاوضات، والمسألة هنا ليست موجهة ضد الأردن، المسألة برمتها موجهة ضد محاولات اسرائيل الحصول على المفاوضات والسلام والاستيطان والاحتلال والجدار والحصار معاً، هذا وضع غير مقبول، ولن تقبل به عمان، ولن ترتضيه لنفسها أو لرام الله.
غداً، يوم آخر، يوم الشروع في بلورة الاستراتيجية الفلسطينية الجديدة ونقل خياراتها الى حيز التنفيذ، على عجل من دون ابطاء، غداً يجب أن يعود الفلسطينيون الى توقيت رام الله وغزة ورزنامة المصالحة الفلسطينية، غداً يجب أن تشرع القيادة الفلسطينية في انفاذ ما كانت لوحت به مراراً وتكراراً، اعادة بناء المنظمة وهكيلتها، التفرغ لترتيب البيت الفلسطيني الداخلي، العودة بكل ملفات القضية الفلسطينية الى الأمم المتحدة، البحث عن مقعد لفلسطين في كل المنظمات الدولية من محكمة العدل الى الجنايات الدولية، الى جنيف والدول الموقعة على معاهدتها الرابعة، الى الاعتراف بالدولة وحدودها، غداً يجب أن تحال الملفات، كل ملفات الجرائم الاسرائيلية الى القضاء الدولي، غداً يجب أن نستخرج تقارير غولدستون وملف الجدار من أدراج لاهاي وجنيف، الى كل المنابر والمحافل، غداً يجب أن نبدأ في مطاردة اسرائيل قضائيا وحقوقيا وسياسيا واعلامياً ودبلوماسياً في شتى الساحات وفي كل الميادين، غداً يجب أن تأخذ المقاومة الشعبية السلمية، طريقها للترجمة الميدانية، بدءا من صلاة الجمعة القادم، بزحف جماهيري الى القدس والأقصى، غداً يجب أن تخرج هذه المقاومة من فضاء الشعار الى حيز التنفيذ.
لا هوادة مع هذا الاحتلال المُجرم، الخارج على القانونين الدولي والانساني، لا بديل عن رفع أكلافه حتى الجلاء الكامل عن الأرض المحتلة وتمكين اللاجئين من العودة الى ديارهم الى أخرجوا منها أول مرة، غداً وبعد غدٍ، يجب أن يرتفع منسوب "الأدرينالين" في العروق الاسرائيلية التي يظن أصحابها، ان الدم الذي يجري فيها من طبيعة مختلفة عن الدماء التي تجري في عروقنا، غداً يجب أن نسمي الأشياء بأسمائها، وأن نعيد اسرائيل الى ذات الخانة التي استقر فيها لسنوات، نظام الفصل والتمييز العنصري في جنوب أفريقيا.
لقد توفرت للشعب الفلسطيني، لأول مرة في تاريخ كفاحه الحديث، فرصة بناء وترميم منظمة التحرير، وأن يدشن انطلاقتها الثلاثة من القاهرة، وبمشاركة جميع الفصائل من دون استثناء، وبالتحديد حماس والجهاد، ومن المعيب اضاعة هذه الفرصة التي قد لا تتكرر دائماً.
لقد توفرت للشعب الفلسطيني، ولأول مرة منذ سنوات عجاف طويلة، فرصة اعادة ربط قضيته الوطنية بحركة الشارع العربي وحراكاته، ومن المخجل أن نتردد في استنفاد هذه الفرصة، وعلينا أن نعمل سوياً على أن نجعل من ذكرى النكبة القادمة، مناسبة لرفع ملايين الأعلام الفلسطينية في شتى الشوارع والميادين العربية، وأن نسقط مرة والى الأبد، المقولة الاسرائيلية التي تسعى في الفصل ما بين ربيع العرب وقضية فلسطين، علينا أن نعيد الاعتبار للبعد القومي الجماهيري لهذه القضية، بعد أن عانت ما عانت جراء اختطاف نظم الفساد والاستبداد للقضية والجامعة والموقف العربي والشوارع العربية، آن الأوان لانطلاقة ثالثة فعلاً، ومن الحواضن الشعبية الفلسطينية والعربية من جديد، ومن المخجل أن نبدد هذه الفرصة، وأن نستعيض عنها بقبض الريح والاتجار بالأوهام، واستمرار الغرق بقواعد اللعبة القديمة وأدواتها ورموزها وضوابطها، علينا أن نقرأ من خارج كتاب مدريد- أوسلو، ومن خارج كتب الفساد والاستبداد والركود العربية، فنحن في زمن آخر وعصر آخر.(الدستور)