عن «فشل» الزيارة وحماس «الورقة»

- يحار المُراقب في فهم دوافع بعض ما يكتب ويقال في قراءة وتحليل وتقييم زيارة وفد حماس الأخيرة للأردن، واللقاء غير المسبوق الذي جمع رئيس مكتبها السياسي وخمسة من أعضائه، إلى مائدة الملك...وإذا كنا نقدر أن بعض ما كتب ونشر صدر عن نقصٍ فادحٍ في المعلومات، فإننا لا نعذر من ذهب بـ”خفّة” في التحليل والاستشراف، إلى خلاصات وتقديرات و”تحذيرات” ليست في موقعها أبداً، خصوصاً حين تصدر مثل تلك القراءات، عن “راسخين في علم” الحركات الإسلامية، الأردنية والفلسطينية منها على نحو خاص.
هل عَرَضت قيادة حماس على القيادة الأردنية (تكراراً) أن تكون “ورقة استراتيجية” في يدها، تمهد الطريق أمامها في الضفة الغربية، توسعة لدور إقليمي مفترض للأردن في المسألة الفلسطينية؟...هل حماس في وارد القيام بهذا الدور؟...وهل الأردن راغب فيه؟...هل أصدرت القيادة الأردنية أية إيماءات يُفهم منها أمر من هذا النوع، بات مرغوباً؟.
مثل هذه الأسئلة والتساؤلات، سبق وأن أثيرت في معرض تفسير وتحليل علاقات حماس بأطراف عربية وإقليمية نافذة أخرى، وهي صدرت عن جهات مختلفة، بعضها ناصب حماس أشد حملات العداء والاستئصال والافتراء، وأذكر أن مديراً سابقاً للمخابرات، يتعرض اليوم لأوسع عملية مساءلة في قضايا الفساد وغسيل الأموال، سعى ذات يوم، وهو في ذروة سطوته، وقبل أن يبدّل موقفه بصورة “درامية” من الحركة، إلى غسل أدمغة كثيرين منّا، بالقول المستند إلى “معلومات صارمة” بالطبع، بأن حماس لا تعدو كونها “ألعوبة” في يد النظام السوري، وأن قيادة الخارج فيها على وجه الخصوص (أسماها حماس الفارسية)، ليست ببساطة، سوى امتداد للحرس الثوري الإيراني.
يومها قلنا أن من ينطق بهذه الترهات، يصدر عن جهلٍ لا بحماس والإخوان فحسب، وإنما بتاريخ المنطقة وصراع المذاهب والطوائف والأقوام فيها...قلنا أن بحراً من دماء الإخوان المسلمين السوريين في حماة، سيظل يفصل ما بين حماس ونظام الرئيس الأسد، مهما ارتفعت “حرارة” اللقاء بين الجانبين، وأن هذه العلاقة لن تستحيل إلى علاقة تبعية، وأنها ليست من صنف علاقات “العمالة والاستتباع” التي تقيمها مجاميع فلسطينية ولبنانية هامشية مع نظام دمشق.
انتهت علاقة حماس بدمشق اليوم، إلى ما يشبه القطيعة، وامتنعت الحركة عن القيام بدور “الألعوبة” في يد النظام، برغم إقرار قادتها، بأن حركتهم قضت سنين “سِمان” في سوريا، تمتعت خلالها بما لم يتمتع به فصيل فلسطيني من حرية الحركة ومرونتها ويسرها...في اللحظة الحاسمة، حسمت حماس موقعها وموقفها، ورفضت أن تكون مجرد “ورقة” في يد النظام، لا تكتيكية ولا استراتيجية، بل إن رئيس مكتبها السياسي غادر دمشق تحاشياً لصورة تذكارية غير مرغوبة في توقيتها ودلالاتها، حتى لا تستخدم الصورة كـ”ورقة” ضد شعب سوريا وفي الصراع الإقليمي الأوسع، المحتدم حولها.
أما “فارسية” الحركة، أو جناحها الخارجي بشكل خاص، فقد كانت “المعلومة” أو “التحليل” في حينه، أقرب إلى “النكتة السمجة” التي لا تُضحك أحداً....فقائلها بدا قليل المعرفة والدراية، بـ”زواج المتعة”، الذي يمكن به وحده، وصف العلاقة بين حماس (السنيّة في نهاية المطاف) وإيران (دولة المذهب في نهاية المطاف أيضاً)، وهي علاقة لم تَنتَمِ يوماً، وليس بمقدورها أن تنتمي لصنف “الزواج الكاثوليكي” الذي لا فكاك منه ولا طلاق فيه...أذكر، وأحسب أن بعض من يتمتع بذاكرة طيبة ما زال يتذكر، أنني مع آخرين، جادلنا في فرضية أن كل باب يغلق في وجه حماس، الخارجة من فوز كاسح في أول انتخابات تعددية، حرة ونزيهة في العالم العربي (2006)، في عمان والقاهرة والرياض، ستُفتح مقابله عشرة أبواب أمام الحركة في دمشق وطهران، وهذا ما كان فعلاً...فمن المُلام إذا عن “زواج المتعة”، وأي رهان انتصر مع ربيع العرب؟..الرهان الذي يختصر حماس بمجرد كونها “ورقة” أم الرهان الذي تحدث عن حماس بوصفها مكوناً رئيساً من مكونات حركة التحرر الوطني الفلسطينية، تحملها ظروف الشعب والشتات والقضية، إلى تحالفات اضطرارية وممرات إجبارية، مرت بها جميع مكونات هذه الحركة من وطنية ويسارية وقومية، من دون استثناء، في مراحل متعاقبة من تاريخ الكفاح الوطني الفلسطيني المعاصر.
ما لم “تَكُنْهُ” حماس في علاقاتها مع سوريا، حيث حظيت بأوسع التسهيلات غير المشروطة إلا ببقائها في دمشق، أملاً في إضفاء صبغة “المقاوم والممانع” على نظامها....وما لم “تَكُنْهُ” الحركة في علاقتها الآخذة في التراجع والفتور مع إيران، حيث مئات ملايين الدولارات من الدعم المالي والعسكري والتسليحي، هل ستقبل أن تقدم عليه اليوم، وأن “تَكونَه” في علاقاتها مع عمّان؟...وما الذي يدفع الحركة لفعل ذلك الآن، وهي التي ترى “إخوانا” لها يقتربون من مواقع السلطة والقرار في معظم دول المنطقة (آخرها الكويت)؟...لماذا تقبل اليوم، في لحظة الصعود الإخواني في المنطقة، بما لم تقبل به من قبل، حين كان إخوان المنطقة، مطاردين من نظم الفساد والاستبداد؟...وكيف يعقل أن تكون الحركة “ورقةَ” فيما “إخوانها” في الأردن، يذهبون في معارضتهم إلى ضفاف “الملكية الدستورية”؟
وهل بلغت “البلاهة السياسية” بقيادة حماس حد الإقدام على طرح أمرٍ كهذا، وهي التي تتابع عن كثب، مجريات السياسة الفلسطينية للدولة الأردنية طوال عشر سنوات من العزوف على “المنافسة” و”المزاحمة” على التمثيل الفلسطيني أو “صراع الأدوار” في الضفة الغربية؟....هل هناك متابع متوسط الذكاء، لا يعرف أن الأردن في “مملكته الرابعة” تحديداً، لم يعد معنيّاً بالصراع على التمثيل والأدوار مع القيادة الفلسطينية، وأن هذه المرحلة قد حُكِمَت بشعار ذهبي فحواه، الأردن أردن، وفلسطين فلسطين، وأن “الدولة الفلسطينية هي خط الدفاع الأول عن الأردن” وهي التجسيد للمصالح الأردنية العليا في عملية السلام و”حل الدولتين” النهائي ؟.
يبدو أن إشاعة نظرية “الورقة الاستراتيجية”، مثل الترويج لـ”فشل” الزيارة، إنما يتأثران بحسابات السياسة المحلية وتحسباتها، فهناك أطراف عديدة، لا تريد لهذه العلاقة أن تُستعاد، لا خشية من أثر ذلك على أمن الأردن واستقراره كما يقال أو يُزعم، وإنما تحسباً لما يعتقده هؤلاء “تدعيماً” سياسياً معنوياً (واستتباعاً شعبياً) لمكانة إخوان الأردن، وقطاع من الأردنيين من أصول فلسطينية، في المعادلة الداخلية.
والطريف في الأمر، أن المحذرين من تداعيات الزيارة أردنياً، يتناغمون عن دون قصد أو سابق تنسيق، مع بعض المروّجين لـ”فشل الزيارة” من حماس نفسها، أو محسوبين عليها، ودائما لحسابات أخرى، لا علاقة لها بالزيارة ولا بحماس أو الأردن....هنا يأتي التحذير من حسابات وحساسيات محلية، وهناك يندرج الترويج للفشل، في سياق صراع داخلي على قيادة حماس ووجهتها في المرحلة المقبلة، حتى أن بعض “الظرفاء” قال إن زيارات قادة حماس الخارجية (في إشارة إلى جولات اسماعيل هنية الأخيرة) تندرج في سياق الحملات الانتخابية الداخلية، أكثر من كونها مرتبطة بحاجة الحركة والشعب والقضية لمثل هذه الزيارات والجولات، وفي مثل هذا التوقيت بالذات، بعد أن تردد أن مشعل لا ينوي الترشح لولاية جديدة...في هذا السياق يصبح الترويج لفشل مشعل في عمان، مرادفاً – او الوجه الآخر - للمبالغة في تصوير نجاح جولات هنية في عدد من الدول العربية والإسلامية.(الدستور)