حب أنكى من كراهية

- عاش العرب منذ أكثر من نصف قرن حياة تعج بالازدواجيات سياسيا وتربويا واجتماعيا كانوا ينشدون للعروبة ويفتكون بالعربي ويسبحون بحمد فلسطين وينكلون بالفلسطيني ويمجدون الاسلام ويطاردون المسلم، ويبشرون بالحداثة وينبذون الحديث، ونادرا ما سمعوا من يكرر عليهم قول شاعرهم القديم: لا تنه عن خلق وتأت مثله.. وان مثل هذه الازدواجية عار عظيم، لذلك تواطأوا على هذا التجريد، وكأن الاوطان تسكن في القصائد، وتدمير الاخ شرط لبناء الذات كأن حكاية ظلم ذوي القربى الاشد مضاضة تمددت صلاحيتها منذ الجاهلية حتى الانترنت.
تصوروا مثلا ان هناك ابنا امه مريضة وتوشك على الاحتضار لكنه يجلس امامها ويغني لها ست الحبايب، او يعدد فضائلها عليه منذ كان رضيعا.. الام تقترب من الموت وتحتاج الى اغاثة عاجلة وهو يذرف الدمع ويغني.. وتصوروا ايضا ان هناك ابا ابنه تجاوزت حرارته الاربعين واصبحت سحاياه في خطر وهو يجلس بالقرب منه وينشد له ابناؤنا اكبادنا ويحدثه عن المال البنون زينة الدنيا.
هذا هو حال العرب لاكثر من نصف قرن وهم ينشدون ويهتفون لاوطانهم، عاطلين عن كل شيء الا عن الكلام والتنافس في النفاق والبلاغة، بينما توغل اوطانهم في الاخطار كلها.. بدءا من انيميا السياسة والاقتصاد حتى الشلل النصفي.
ما الذي اخذته الأم المحتضرة من الابن الراكع تحت قديمها لكنه لا يقدم لها حتى حبة اسبرين او جرعة ماء.. وما الذي اخذه الابن من ابيه الذي ينشد امامه عن الاكباد التي تمشي على الارض..
ما اخذه الاثنان هو الموت حبا، لكنه حب انكى واقسى من الكراهية، وحين كتب الشاعر الباقي محمود درويش مقالة بعنوان "انقذونا من هذا الحب القاسي" كان يعني ما هو ابعد من الشعر، وان كانت مناسبة المقال هي الشعر وتسامح النقد العربي المنافق مع رداءته لمجرد انه كتب من فلسطين، رغم ان الفن الرديء يسيء الى القضايا الكبرى التي ينحاز اليها بقدر ما يسيء اليها الاعداء.
لم يغن احد في العالم المعاصر للوطن كما فعل الاعراب، لكن هذا الغناء بقي موسميا وممنوعا من أي صرف، لان الاوطان المريضة تركت تنزف وتقترب من الهلاك كتلك الأم التي ماتت من فرط الحب القاسي، والابن الذي قضى لأن اباه احبه كما تحب الذئاب لحم الخراف وهو لا يدري.
والان في ذروه هذا النزيف وتفاقم هذه المديونيات والتهديد بالحرمان من الحد الادنى للاستقلال والسيادة، ننصرف عن الدواء والتشخيص والاغاثة والتبرع بالدم الى المعزوفات ذاتها.
ان للحب اساليب اخرى للتعبير غير هذه الثرثرة الجوفاء، ولو احبننا اوطاننا بقدر ما انشدنا لها لما كانت الآن مسجاة في غرف الانعاش بانتظار الغرباء كي يقدموا لها الجلوكوز او لإجراء جراحات عاجلة لإنقاذها. ولكي يتبدد العجب من كل هذا تصوروا ان هناك اغنية طالما رددناها في صبانا تقول كلماتها او بعض منها:
ما باكل ولا بشرب
بس بطلع في عيونك..
انها شأن كل المبالغات الكاذبة التي تعوض ما هو مفقود، تماما كما قال احد شعرائنا ذات يوم: لولا ملوحة ماء البكاء لحسب دموعه انهارها، او كما قال آخر: ومن الحب ما قتل.
فهل سنحب اوطاننا بعد كل ما جرى لها كما يليق بها أم أن الطبع غلب التطبع؟!(الدستور)