سوريا..روسيا.. ما هو أبعد من الفيتو!

- يغريني التاريخ بالابتعاد عن اللحظة الراهنة من العلاقة السورية الروسية وهي العلاقة التي سبقت قيام الاتحاد السوفييتي وصاحبت وجوده ولم تنته برحيله..فما السر وراء ذلك..وما هي بذرة هذه العلاقات؟..
أذكر أنني كنت في زيارة الى موسكو في أواخر الثمانينات وما زال الاتحاد السوفييتي في آخر آيامه وقد أصيب بمرض البيرسترويكا (اعادة البناء) فلم يتم بناؤه وانما انهار وتغير..كان الرئيس حافظ الاسد في زيارة الى موسكو وقد تابعت خطابه في الكرملين ولفت انتباهي قوله أمام القيادة السوفييتية..»لقد أهديناكم المسيحية» ..وتذكرت أن المسيحية الأرثوذكسية (السريانية) هي ذات منشأ سوري فقد قامت لتنقل مقراتها من أنطاكية الى مناطق في جنوب تركيا ثم الى حمص ثم الى دمشق أخيراً..
وقد أثرت هذه الكنيسة في روسيا تماماً وتشعبت وكان الروس قد قدموا للمنطقة ابان الوجود العثماني فبنوا (مواقع دينية سميت «بالمسكوبية» نسبة الى موسكو وفي فلسطين عدد منها..
اذن الكنيسة الارثوذكسية-السورية-السريانية-النساطرة واليعقوبية نسبة الى (يعقوب البرادعي) امتداد للكنيسة الشرقية أو المشرقية وهو ما حرك بطرك هذه الكنيسة الروسي لزيارة دمشق بعد وقوع الاضطراب في سوريا خاصة وان اتباع هذه الكنيسة العربية كثيرون في سوريا وهم الاكثر من بين الطوائف الأخرى..
ليس فقط الكنيسة الأرثوذكسية وامتدادها هو ما يدفع موسكو للاهتمام بالشأن السوري وتراكيبه الداخلية الاجتماعية وقد يكون هذا السبب الاخير لكني أوردته أولاً لقفز السياسيين والمحللين عنه ووقوفهم عند عوامل أخرى مهمة وعلى رأسها العامل الاقتصادي العسكري ..فروسيا التي أهرعت بارجتها الحربية «ارميرال كوزنيتسوف» لترسو في طرطوس تريد أن ترسل رسائل ان التسليح السوري هو وقف روسي وأن هذه الحلقة لا يجوز ان تكسر كما كسرت حلقة التسليح المصري حين طرد السادات الخبراء الروس قبل ذهابه الى القدس عام 1977..فهناك في سوريا ما يقدر ب (600) خبير وفني روسي لاصلاح ميناء طرطوس السوري على البحرالمتوسط ومهام أخرى وهناك اسلحة روسية تتدفق بكلفة تزيد عن (4) مليار دولار منها صواريخ كروز «بانخو نت الروسية كما أن في سوريا استثمارات روسية تزيد عن(19) مليار دولار في البنية التحتية المدنية والعسكرية وقطاعات أخرى عديدة ولا تريد روسيا ان تعود لتشرب من نفس الكأس الذي شربت منه في ليبيا حين أظهرت مرونة للغرب فانتزعوا ليبيا وضربوا المصالح الروسية الى زمن بعيد..
اذن هناك دوافع عسكرية اقتصادية مهمة ويبقى ان أذكر دافعاً آخر جيوسياسيا قديما ومتجددا ومهما وهو وراثة روسيا لانتصار احدثته منذ العهد القيصري حين استطاعت آنذاك ولأول مرة ان تصل الى المياه الدافئة (البحر المتوسط) وقد بقيت لقرون مع وجود ذبذبات في هذا التواجد الذي ترى روسيا التمسك به الان ضرورة لا تعدلها ضرورات أخرى.. فالمكان حيث الموانيء السورية في طرطوس واللاذقية توفر لها مواقع وجود هامة في وجه تحديات حدثت وأخرى ما زالت تخشاها روسيا من الغرب سواء الأميركي أو الأوروبي المتحالف معه وخاصة في ظل الأزمات المتجددة..فالوصول الى البحر المتوسط يعني الوصول الى جنوب اوروبا واذا كان لروسيا حدود برية مع أوروبا في الامتداد الجغرافي رغم انسلاخ الكتلة الشرقية وانفراطها ودخول أكثرها الى الاتحاد الأوروبي الذي وصل الى 28 دولة فإن الوجود البحري الروسي في المتوسط من خلال موانيء سورية يعادل درجة الخطورة في التلاصق البري وهنا مكمن الخوف لدى روسيا ان تخسر هذا الموقع الاستراتيجي فتكون بذلك قد صفيت مواقعها المهمة في المتوسط وبالتالي رحيلها كما رحلت من مصر وقد لا يكفي وجودها الرمزي في الجزائر..
سوريا اذن مهمة لروسيا لهذه المستويات وأخرى غيرها لا تدركها هذه المقالة ومن هنا فإن الفيتو هو الطلقة الاخيرة في المسدس الروسي لانقاذ المصالح الروسية في سوريا قبل مصالح النظام السوري نفسه..ولذا فإن النظام السوري يبني ثقته بالموقف الروسي لاعلى طريقه من خسروا الرهان على روسيا من العرب ولكن من خلال مصالح روسيا الكبيرة في سوريا ومع نظامها.. (الراي)