خيط بين الفوضى والاصلاح

- ثمة فرق كبير بين البناء والهدم! لدينا هنا ميزة متقدمة على أغلب الدول العربية الأخرى تكمن في الاستقرار الاجتماعي والسياسي، وفي المقابل لدينا معضلات وأزمات كبيرة خطرة تتطلب معالجات بنيوية، علينا أن نوازن بين الجانبين الاستقرار وضرورة الإصلاح معاً.
بالضرورة، أغلب المواطنين يضعون تلقائياً هذه المعادلة نصب أعينهم، فليس لدينا ترف الدخول في مرحلة نفقد فيها كل شيء، ولا أن نتخلّى عن طموحنا المشروع بإصلاحات جوهرية، سياسياً واقتصادياً، تنقل البلاد إلى مرحلة جديدة تكون قادرة فيها على بدء "صفحة جديدة" مع الربيع الديمقراطي العربي وتطلعات الناس المشروعة لتحسين الأوضاع من مختلف النواحي، طالما أنّ المعادلات السابقة انتهت صلاحياتها وتتطلب تجديداً بنيوياً حقيقياً.
في هذا المقام ثمة عقليتان خطرتان، الأولى تقليدية لا تؤمن بأنّ الإصلاحات ضرورية، وأنّ الوطن لن يتقدم إلاّ بالتأسيس لمرحلة مختلفة، نستدرك فيها على الأخطاء السابقة ونفكّر فيها في "الصورة الجديدة"، والثانية مازوشية لا ترى في الوطن إلاّ "خرابة"، وتقفز عن الميزات الأساسية والحيوية التي تفصلنا عن جوار ملتهب يتداعى ومنطقة محفوفة ومسكونة بالأزمات والمجازر والتقلبات، تعصف باستقرار الدول والمجتمعات وسلمها الأهلي.
الإصلاح ضرورة، حتى لا يكون استقرارنا هشّاً أو مبنياً على رمال متحركة، بل لتكون هنالك قواعد متينة راسخة تحمي البلاد وتعزّز الثقة الداخلية وتمنع تسرب القلق إلى المواطنين على مستقبلهم أو انتشار الإحباط وخيبة الأمل، وهذا لا يقف عند حدود التعديلات الدستورية وقانون الانتخاب وإجراء انتخابات وتداول سلطة، وإن كانت تلك الخطوات بمثابة شرط أساسي لتجاوز هذه المرحلة، لكنها ليست كافية؛ ففي لبنان اليوم انتخابات وتداول سلطة، لكن الأوضاع مهددة بأي لحظة بالانفجار، حتى ولو على خلاف حول الكهرباء، وكذلك الحال في العراق ودول أخرى.
ما هي الوصفة السحرية لبناء المعادلة المطلوبة وتجاوز الأخطار والأزمات المحيطة والتفرغ لمواجهة التحديات والتهديدات الاستراتيجية (العدالة، الطاقة، الماء، التعليم، التنمية، البطالة وجيوب الفقر، توفير فرص عمل..)؟..
الجواب يكمن بـ"الشراكة"، المرحلة الراهنة تتطلب عقولاً منفتحة متعاونة، تفكر ليس بعقلية الأضداد أو الخصوم، أو بمنطق إشاعة الرعب والفوضى، بل بتغليب منطق التفاهم وحسن النية، والعمل على وضع أسس عقد اجتماعي جديد، يتوافق الجميع فيه على الخطوط العامة للمعادلتين السياسية والاقتصادية، ويتم إجراء الانتخابات في الصفحات الأولى من الكتاب الجديد، وليس الكتاب الحالي.
في الآونة الأخيرة اختلطت المفاهيم كثيراً، حتى الحديث عن الإصلاح اتخذ أبعاداً متباينة، وربما متناقضة، وبرزت على السطح أزمات مقلقة جداً، على خلفية صعود الهويات الفرعية وتأجيج الهواجس المتبادلة بين المواطنين، واضطراب رسالة الدولة فيما إذا كانت قد حدّدت الطريق واضحةً نحو دولة القانون والمواطنة والتعددية وتداور الحكومات، أم أننا ما نزال ندور حول أنفسنا ونتعرقل بكل أزمة ومشكلة صغيرة، حتى تصبح ككرة الثلج المتدحرجة.
من الضروري أن نفكّر في الجانب الاقتصادي بصورة موازية وعلى الدرجة نفسها من الأهمية للإصلاح السياسي، سواء ما يتعلّق بالأزمة المالية الحالية والخيارات الصعبة أمام الدولة أو حتى بالفجوة التنموية وعجز الشريحة الاجتماعية الواسعة من المواطنين عن التأقلم مع الضغوط الاقتصادية، وهو ما فجّر مؤخراً حركات الاحتجاج المطلبية على خلفية خيبة أمل من نتائج مشروع إعادة الهيكلة أو البطالة أو الفقر وشح فرص العمل في القطاع العام.
اليوم هنالك فراغ يكمن بعدم وجود رؤية استراتيجية وطنية للمرحلة المقبلة، تحدد الأولويات والأسس وتعيد بناء القيم الوطنية بصورة صارمة، هذه الرؤية هي مفتاح مواجهة الأزمة والدخول إلى المستقبل، والتفكير بما ينفع الناس في الأرض.(الغد)