وقفة مع «الفيتو المزدوج»

- قيل، وسيقال الكثير عن "لا أخلاقية" الفيتو المزدوج، الروسي الصيني في مجلس الأمن...كل ما قيل، أو يمكن أن يقال، صحيح مائة بالمائة ولا غبار عليه...مع ملاحظة، أن كل ما قيل ويقال، ينطبق بدرجة أعلى من البشاعة و"اللا أخلاقية"، على عشرات "الفيتوات" التي أشهرتها واشنطن وبعض عواصم الغرب، دعماً للاحتلال والاستيطان والعنصرية الإسرائيلية، في مواجهة حق الشعب الفلسطيني في الحرية والكرامة والعودة والاستقلال، الأمر الذي يعيد للأذهان المثل العربي القائل: "لا تنه عن خلق وتأتي بمثله..."، وهذه مسألة سنتركها لنقاش لاحق.
على أية حال، ثمة جدل محتدم حول تداعيات الفيتو المزدوج وانعكاساته على الأزمة السورية...البعض يقول، أنه أغلق الباب في وجه الحل السياسي للأزمة السياسية، وأعطى النظم "رخصة للقتل"، لكأن النظام كان سيذعن صبيحة اليوم التالي لمنطوق القرار واستحقاقاته، وهذا أمر لا يختلف عاقلان حول "لا واقعيته"...البعض الآخر- الأقلية من المعلقين والسياسيين - لا يستبعد أن يدفع "الاستعصاء" الذي فاقمه الفيتو المزدوج ولم يؤسس له، إلى تنشيط محاولات "استيلاد" حل سياسي، تكون روسيا طرفاً ضاغطاً فيه وفاعلاً باتجاهه، وهذا أمرٌ مفتوح للجدل والرهان.
تستند فرضية "الأقلية من المعلقين" هذه، إلى جملة اعتبارات منها: (1) إدراك جميع الأطراف، وبالأخص النظام والمعارضة، صعوبة الحسم العسكري وكلفته الباهظة ومداه الزمني المفتوح...(2) تراجع فرص التدخل الدولي (العسكري) في الأزمة السورية، خصوصاً بعد تفاقم ارتداداتها وارتباطاتها الإقليمية (إيران، العراق، لبنان، البحرين والسعودية)...(3) وصول الدعم والحماية الروسية للنظام، حداً لن تعود بعده روسيا قادرة على تقديم المزيد، إن لم يُقْدِم النظامُ نفسه، على اتخاذ مبادرات "جوهرية" تجعل الحل السياسي ممكناً.
في هذا السياق، يتوقف المراقبون أمام الزيارة بالغة الأهمية التي سيقوم بها رئيسا الدبلوماسية والاستخبارات الروسيتين إلى دمشق اليوم...وهي الزيارة التي أحسب أنها ستفصل بين مرحلتين في تطور الموقف الروسي من الأزمة السورية، المرحلة الأولى: الدعم والحماية، وقد توجت بالفيتو في مجلس الأمن، والمرحلة الثانية التي ستبدأ اليوم، وستقول فيها موسكو لدمشق، بأن قدرتها على المضي قدماً في هذا الطريق، تنتهي عند هذا الحد، وأن الكرة باتت في ملعب النظام، الذي يتعين عليه أن يتحرك بسرعة المسار السياسي، مثلما تحرك ، بسرعة أيضاً على مسار "الحسم الأمني والعسكري" خلال الأيام القلائل الفائتة.
ولا أحسب أن الضيفين رفيعي المستوى، سيكتفيان من الأسد بحديث فضاض عن "برنامجه الإصلاحي"، ولا أظن أنهما سيقبلان منه، وعوداً بتعديل قانون الإعلام أو الجمعيات، في ظني أنهما ينتظران مبادرة كبيرة، تليق بحجم ومخاطر المجازفة الروسية في دعم نظام منبوذ على الساحتين العربية والدولية، وهنا تختلف التقديرات حول طبيعة هذه المبادرة المطلوبة روسياً وحجمها وأشكالها.
مثل هذا التقدير، يستند إلى واقعة أن روسيا كانت سبقت الجامعة العربية في اقتراح "النموذج اليمني" للتغيير في سوريا بديلاً عن "النموذج الليبي"، لكن تجاهل العرب لروسيا ودورها ومصالحها، ووضعهم الأوراق كلها في سلة مجلس الأمن والولايات المتحدة، جعل روسيا تتخذ ما اتخذت من مواقف وسلوكيات...ولو أن وزراء الخارجية العرب، التقطوا المبادرة الروسية، وبنوا عليها مشروع قرار عربي – روسي لمجلس الأمن، لكانت النتيجة مغايرة تماماً، ولما وجدت روسيا في استهداف سوريا، استهدافاً لها ولمصالحها، ولما اضطرت روسيا لأن لخوض المعركة من خط دفاعها الأخير في سوريا.
لو أن العرب، أو بعضهم على الأقل، "كانوا يريد العنب لا الناطور"، لتعين عليهم الذهاب من فورهم إلى موسكو وبكين لتذليل عقبات موقفيهما، على اعتبار أن واشنطن وعواصم أوروبا، مضمونة وموافقاتها على المبادرة في الجيب...لكنهم – العرب – لم يفعلوا، إما لاستخفاف بروسيا ودورها ومصالحها، أو إيماناً فائضاً من طرفهم بأن روسيا ستتراجع في "ربع الساعة الأخير" كما فعلت مراراً وتكراراً في ظروف مشابهة وأزمات أخرى، أو لأنهم، وهذا ينطبق على بعضهم من دون شك، كانوا حريصين أشد الحرص، على إغلاق جميع بوابات ونوافذ الحل السياسي، بما فيها تلك المقترحة من قبلهم، استعجالاً منهم للحل الأمني والحسم العسكري مع النظام، فيكون تقديمهم لـ"النموذج اليمني" توطئة وتمهيدا لتسويق وتسريع "النموذج الليبي".
على أية حال، لروسيا مصالح وحسابات في سوريا والمنطقة، لا ينفع أبداً تجاهلها وتنكرها، من الغاز وطرق إمداده وأنابيبه والصراع عليه، إلى القواعد الثابتة والعائمة في المياه الدافئة، مروراً بالتجارة والمال والسلاح، ناهيكم عن "سنة الانتخابات" و"الإسلاموفوبيا" التي لم تبرأ روسيا من عقدتها "الشيشانية بعد...وحده الحوار مع روسيا يمكن أن يكون مجدياً ومفيداً لكل الأطراف، أما "حفلات الردح" لموسكو وبكين ودعوات مقاطعة بضائعهما والهجوم على سفاراتهما في العواصم العربية أو الدولية، فهي مثيرة للسخرية، سيما حين تصدر عن قوى شعبية وإسلامية محلية وعربية، متزامنة مع "رفع الفيتو عن الحوار مع الأمريكيين والبريطانيين"، وبعد سنوات من الاحتفاء بزوال نظام القطبين والإشادة "عودة الدب الروسي" و"يقظة التنين الصيني" وغير ذلك مما أشبعنا "القوم" حديثاً به، طوال سنوات طوال.
نصف الكأس الملآن فيما حدث في مجلس يتجلى في أمرين اثنين: سوريا باتت مقتنعة بأن روسيا هي حصنها وملاذها الأخريين...وروسيا وصلت نقطة الذروة في دعمها وحمايتها للنظام...عند هذه النقطة، وعند هذه النقطة بالذات، يمكن أن ينفتح الباب أمام الحلول والمبادرات التي تكفل خروج الأزمة من استعصاء الحلول الأمنية والعسكرية إلى فضاءات المعالجة السياسية...لا النظام السوري سيأمن غده من دون دعم موسكو وحضانتها، ولا موسكو قادرة على الذهاب أبعد في المخاطرة والمجازفة، من أجل نظام، حرصت مراراً وتكراراً على القول بأنه ليس حليفها.(الدستور)