تاريخ مُضاد!!

- ردد العرب أثناء العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 -عندما كانوا عرباً- أغنيات وأناشيد لم تتكرر في حياتهم إلا على طريقة أن للبطل جولة بعد هزيمة حزيران، من تلك الأغنيات:
دع سمائي فسمائي محرقة دع مياهي فمياهي مغرقة..
لكن العدو الذي خاطبته هذه الاغنيات لم يدع سماء أو ماء أو أرضاً، وأحرق مدرسة بحر البقر المصرية وتحولت الطباشير الى اللون الأحمر، ولم يبق شيء ابيض حتى البحر الابيض المتوسط فقد بياضه وتطرف.
اما بور سعيد، التي اقترن اسمها بقناة السويس فقد غنى لها العرب يومئذ:
أمانة عليك أمانة
يا مسافر بور سعيد
أمانة عليك تبوس لي كل إيد
في العقود العجاف الخمسة التي مُتناها اكثر مما عشناها تبدل كل شيء، ولم يبق في القبضة المعروفة غير حجر سرعان ما بدل هدفه فشج رأس من حمله، وعما قريب ستصبح أبهى المدن العربية التي ارتبط اسمها بمقاومة باسلة أو بحروب قديمة انتهت الى انتصارات مجرد أسماء لمجازر ومحارق.
قانا تحولت من كل دلالاتها القديمة سواء كانت دينية أو قومية الى مجزرة، وصبرا وشاتيلا من مخيمين ينتظر فيهما اللاجئون العودة الى شاهدتين على قبر جماعي، وكما سيشهد جان جينيه الذي شهد الفاجعة فقد قصفت قبور الموتى حتى تبعثرت الاشلاء وانتهى الامر الى ذر الرَّميم وليس التراب في عيون ملأها القذى.
وأبهى مدن لبنان وقراه من شماله الى جنوبه فقدت أسماءها القديمة كمصائف، ووجهة للحالمين برومانسية الجبل ونداه، وصارت اسماء لمجازر وقبور جماعية، وتكرر الامر في العراق.. فلم يعد هناك مدينة شهباء أو حتى حدباء وغرقت الحدائق المعلقة في دمها مثلما غرق دجلة في دمه.
بور سعيد ليست البداية ولن تكون الخاتمة لهذا المطاف القومي الشقي الذي حوّل الاوطان الى منافي وروضات الاطفال الى مقابر والمهود الى توابيت.. ولو كانت كرة القدم هي السبب فما أسهل تنفيسها وتمزيق جلدها ورميها في سلة قُمامة، لكن أسباب موتنا الجماعي تبدو أحياناً مضحكة في ذروة الحزن.
فمن قالوا ان الحرب الاهلية في لبنان التي دامت ربع قرن وما تزال ظلالها السوداء تتربص بما تبقى حدثت بسبب واقعة الباص، هم الذين صدقوا بأن المغرب العربي احتل بسبب ضربة مروحة ورقية أو ان بريطانيا احتلت مصر عام 1882 بسبب فواتير الخديوي اسماعيل وديون مصر، وهم ايضا الذين صدقوا بأن اسرائيل هزمت سبع جيوش عندما كان القرش الفلسطيني مثقوباً لأنها الاقوى، وهم ايضا الذين صدقوا بأن العراق احتل وأخرج من العراق بحثا عن الحرية والديمقراطية.. والقائمة تطول.. لكن ما جرى في بور سعيد يبقى استثناء لأنه اقترن بلعبة كرة رأس وليس كرة قدم.
هذه الكرة التي شغلت العرب عن كل شيء وعوضت انتصاراتها الكاذبة عن هزائم بعدد أيامنا، لهذا قد يأتي ذلك اليوم الذي يجيب فيه أحفادنا عن اسئلة من طراز ماذا تعرف عن لبنان أو العراق أو بور سعيد فيجيب بسرعة ان لبنان أكل بعضه وأحرق نفسه وأن العراق تحول الى أشلاء وبور سعيد هي المدينة التي وقعت فيها مجزرة بسبب مباراة، هكذا سوف تولد اناشيد عربية جديدة تليق بهذا الوقت الرمادي، فما اكثر الشهداء وما أقل الانتصارات وما أكثر العرب وما أقلهم.
انه تاريخ آخر يصاغ الآن بين مطرقة العدو الحميم وسندان الشقيق اللدود!!(الدستور)