تَجْريف البَشَر !!

- ما الذي تفعله بسوادك؟ هذا سؤال طرحه جان بول سارتر عندما كتب عن الشعراء السود معلناً اعجابه الشديد بما يكتبون، ولا أظن أن مايكل جاكسون قرأ ما كتبه الفيلسوف لأنه كان من الممكن ان يفعل بلونه الأسود أي شيء آخر غير اجراء جراحات جلدية معقدة لتبييضه، وكان يمكن لأي عربي ان يطرح سؤالاً مماثلاً عن العميان وهو ما الذي سوف تفعله بعماك؟ هل تقف أمام المسجد متسولاً أم تصبح طه حسين أو بورخيس؟
بالأمس، صدر قرار صحي باغلاق صالونات ما يسمى (الولاريوم) في استراليا، لأنه سبب مباشر لسرطان الجلد، وحكاية هذا الانسان الحائر الذي فقد هدفه وعطبت بوصلته أقرب الى الكوميديا السوداء، فهو يبحث دائماً عما يظن أنه ينقصه لأنه موجود لدى الآخرين الأسمر يريد بشرة بيضاء ويدفع ثمناً باهظاً من ماله وصحته وسلامته النفسية وانسجامه مع نفسه مقابل التبييض أو (طرش الجلد) والابيض يفعل ذلك أيضاً بحثاً عن بصمات ساحرة للشمس، والطويل الذي يجد صعوبة في العثور على ملابس أو حتى سرير يناسبه يريد ان يقصر، فيبتعد عن الكعوب العالية للاحذية مقابل القصير الذي يفعل العكس ويضيف الى قامته كعباً سرياً أو علنياً لا فرق لكنه ما أن يخلعه حتى يعود الى قامته الحقيقية سالماً!
لقد شاهدت في موسكو أثناء احتدام السجال حول البيروسترويكا وهل هي اعادة هدم أم اعادة بناء طوابير من الروس يقفون بالساعات أمام محلات ماكدونالدز التي اخترقت سورهم العظيم، لكنني فوجئت بعد ساعة فقط بطوابير اخرى من الاوروبيين والامريكيين أمام محلات في موسكو تبيع الكافيار، فكل واحد يبحث عما يظن أنه ينقصه لأنه فقط في حوزة الآخرين! وكان لي في مصر جارتان بالصدفة احداهما سمينة تعذب جسدها من أجل الترشيق وتصاب بأمراض أخطر من السمنة والرشاقة،
واخرى تعالج نحولها المفرط بالوصفة الشعبية المصرية وهي تناول كميات كبيرة من مُربى خرز البقر.. وذات يوم قالت أم السمينة لابنتها ان أفضل وصفة لتحقيق ما تريده الاثنتان هو ان توضعا معاً في خلاط كوكتيل.
ما الحكاية؟ وهل اصبح الانسان مفرغاً من محتواه وجوهره الآدمي بحيث لم يعد غير سطح معروض للفرجة؟
لقد تعايش رجال عظام ونساء لَسنَ أقل عظمة مع انفسهم وانسجموا مع شروطهم لهذا أنجزوا وأبدعوا وحققوا ذواتهم بالشكل الحقيقي.
والوقت الذي صرفه مايكل جاكسون على تبييض بشرته قد يكون أضعاف الوقت الذي أنفقه شعراء مثل ليوبولد سنجور وايميه سيزير على ابداع خالد.
ان الانسان ذا البعد الواحد كما سماه هربرت ماركيوز الذي زمّر لثورة شباب العالم في شهر مايو عام 1968 هو انسان ضائع، ومُختزل ولا يدرك أن عمر العقل أطول من عمر الجسد بكثير، وان الشيخوخة لا تطال الدماغ الا اذا أصبح عاطلاً عن العمل وأسلم أمره للغرائز!
ان هذا التنقل الكوميدي بين التسمير والتشقير، والتطويل والتقصير والتسمين والترشيق أخذ يستغرق حياة مئات الملايين من البشر الذين لو فكروا دقيقة واحدة بحقيقة وضع الانسان لانصرفوا الى شجن آخر!(الدستور)