ما بعد «الدوحة»

- ذلل “إعلان الدوحة” عقبة مهمة اعترضت مسار المصالحة الفلسطينية، لكن الكثير من العقبات ما زالت تقف في وجه المعالجة الجذرية الشاملة، للأزمات الفلسطينية المركبة، ما يستوجب وقفة متأملة، و”قراءة من خارج النص”، لكل المشهد الفلسطيني بكل عناوينه وصفحاته.
والذين اعترضوا على صيغة “الدوحة” صنفان من الناس، الأول، وقد استند إلى ما اعتقد أنه “خرق دستوري”، وعبر محقاً عن الرغبة في تفادي جمع الصلاحيات والمناصب بين يدي رجل واحد، والثاني، وقد استظل بهذه المبررات والذرائع للتغطية على موقف متحفظ في الأصل، بل ورافض لجهود المصالحة ومحاولات ترتيب البيت الفلسطيني الداخلي، إما لأسباب سياسية وعقائدية، أو لمصالح فئوية وشخصية ضيقة للغاية...أما الجمهور الفلسطيني العريض، فقد قابل “إعلان الدوحة” بشيء من “اللامبالاة”، تأسيساً على تجارب ومحاولات فاشلة سابقة...لكن في الإجمال، يمكن القول، أن مناخات من الارتياح والترحيب سيطرت على ردود الفعل الفلسطينية حيال ما جرى في العاصمة القطرية.
لم تنته المسألة في الدوحة، ولن تنته العقبات بعد الاتفاق على تولي الرئيس أبو مازن مهام رئاسة الحكومة إلى جانب مهامه ومواقعه العديدة...صبيحة اليوم التالي، سيواجه طرفا الاتفاق، منفردين ومجتمعين، مشاكل من كل لون وصنف، كل في إطارة ومن ضمن دائرة تحالفاته القريبة والبعيدة.
ثمة في رام الله، من هم متحفظون دوماً على الوحدة والمصالحة، هؤلاء لن يرفعوا الراية البيضاء، أصحاب مواقف ومصالح، ستمس بشكل أو آخر، إن قُدّر لقطار المصالحة أن يبلغ محطته النهائية....لن يتورع هؤلاء عن التحريض على المصالحة وتأليب الرأي العام ضدها، وحشد الحلفاء في الإقليم وخارجه، ضد المصالحة ومن قادها ووقّع على إعلانها في الدوحة، هؤلاء سبق لهم أن احترفوا “مهنة” التحريض، ولديهم الاستعداد لاستئناف هوايتهم هذه، التي لم يتوقفوا عن ممارستها، تارة ضد الرئيس الراحل ياسر عرفات، والآن ضد الرئيس محمود عباس، والقصة معروفة على أية حال.
وفي غزة، وأكنافها، ثمة تيار في حماس، قريب منها ومحسوب عليها، يبدو لأسباب شتى، اعتراضاً على ما تم إنجازه حتى الآن، هذا التيار، لم يكظم تحفظاته، بل باح بها بعيد ساعات من توقيع الاتفاق...أما مصادر قلقه ومباعث رفضه للمصالحة، فعديدة ومتنوعة، تبدأ بالسياسة والإيديولوجيا، ولا تنتهي بالمصالح واستمراء الأمر الواقع.
وثمة بنى ومؤسسات على ضفتي الانقسام الفلسطيني، سيجد المتحاورون والمتصالحون عنتاً شديداً جراء مقاومتها لرياح الوحدة “والترتيب”...خصوصاً إذا ما قُدّر لقطار المصالحة، أن يصل محطة إعادة بناء وتوحيد الأجهزة الأمنية...حتى الحكومة التي جرى الاتفاق على شخص رئيسها، أحسب أنها ستمر بمخاض ولادة، نأمل أن يكون عسيراً أو “قيصريا”.
وفوق هذا وذاك وتلك، ثمة تحفظات دولية وإقليمية، وعقبات إسرائيلية، ليست خافية على أحد، وقد بدأت نذرها بالإطلالة برأسها القبيح، في التصريحات الاستفزازية لرئيس حكومة إسرائيل تعقيباً على إعلان الدوحة.
مثل هذه التحفظات التي نثيرها في لحظة التفاؤل بإنجاز “الدوحة”، ليس الهدف منها على الإطلاق، تعكير لحظة فرح فلسطينية، وإن كانت متواضعة أو حتى باهتة، بالوحدة والمصالحة...مثل هذه الملاحظات نستحضرها للتنبيه أولاً، إلى أن المشوار ما زال طويلاً، والاستحقاقات الداهمة من النوع المثير للجدل والخلاف ما زالت أمامنا... وللتأكيد ثانياً، على أن المهمة الأصعب بدأت بعد الدوحة، ولم تنته عندها.
وأحسب أن القيادة الفلسطينية، في إطارها القيادي الجديد المؤقت، أو في أطرها التاريخية المعروفة، مطالبة بشدة، بمقاربة الملفات الفلسطينية جميعها، ومن ضمن رؤية استراتيجية شاملة...وأدعو هذه الأطر القيادية، لخلوات مع النفس، بعيداً عن الانشغالات اليومية، وإجراء “عصف ذهني عميق” في تحديات المرحلة المقبلة وسبل مواجهتها، ورسم ملامح خريطة طرق فلسطينية، نسميها ويسميها كثيرون، الاستراتيجية الفلسطينية البديلة، ففي لحظات الانعطاف، تبدو “السياسة اليومية” عبئا على صناع القرار وقيداً على الاستشراف والتفكير.
وفي سياق التوافق حول هذه الاستراتيجية المستقبلية، يجب أن تندرج جميع خطواتنا اللاحقة، بما فيها إجراءات إعادة ترتيب البيت الفلسطيني والانتخابات والهيكلة والتفعيل والداخل والخارج، إلى غير ما هنالك من عناوين.
“إعلان الدوحة” خطوة للإمام...بل وخطوة مهمة على هذا الطريق، لكن الطريق ما زال طويلاً ووعراً، ومن دون الاستعداد المقرون بالوعي والإرادة السياسية، يصعب التكهن بمآلات هذه الفرصة وانعكاساتها على المشروع الوطني الفلسطيني.(الدستور)