«الحقيقي» و«المفتعل» في الموقف الإسـرائيلي من المصالحة الفلسطينية

- لا يندرج السؤال عن الأسباب التي تدفع إسرائيل لرفض المصالحة الفلسطينية في خانة “نافل القول” أو من باب “تحصيل الحاصل”...لذا مسّت الحاجة لإعادة تناول المسألة، ونحن في نقف على عتبات “فرصة نادرة” للإنتقال من القول إلى الفعل في إنجاز هذا الاستحقاق.
استراتيجياً، تعتقد دوائر التخطيط وصنع القرار، أن مرور سنوات إضافية على الإنقسام، سيخلق وقائع على الأرض، تصعب معها مهمة استعادة وحدة الجغرافيا الفلسطينية، حد الاستحالة، بعد أن تكون نشأت مصالح وأطر وأجهزة وبنى وفئات اجتماعية، تعيش على هوامش الانقسام، تؤيده وتسعى في تأبيده...في هذا السياق، يجدر التأكيد أن إسرائيل وهي تسعى في تكريس الفصل النهائي بين الضفة الغربية وقطاع غزة، لأنها في المقام الأول والأخير، تريد لغزة أن تكون مقر الدولة الفلسطينية وحاضنتها، أما الضفة الغربية، فستظل هدفاً للأنياب الفولاذية لجرافات الاستيطان الإسرائيلي...ودائماً على قاعدة أو وفق النظرية الإسرائيلية الخبيثة: “الفلسطينيون عاجزون عن حكم أنفسهم بأنفسهم”.
سياسياً، يوفر استمرار الانقسام لإسرائيل كل تحتاجه نظرية “غياب الشريك الفلسطيني”، فالفلسطينيون المنقسمون على أنفسهم لا يمكن أن يخرج من بينهم شريك جاد وقوي في هذه العملية...غزة، المعزولة والمحاصرة تخضع لحكم حماس، وهي تتحول إلى ملاذ للإرهاب، والرئيس عباس لا يسيطر على سكان الدولة ومواطنيها، وهو في جميع الأحوال، ليس شريكاً مناسباً، إن ظل الانقسام فهو رئيس لجزء من الشعب لا الشعب كله، وإن أستعيدت الوحدة، فهو اختار الانحياز لطريق حماس و”الإرهاب”، وغادر طريق السلام، واستحق ما استحق من إجراءات تلوّح إسرائيل باتخاذها.
ميدانياً، وفر الانقسام للإسرائيليين الفرصة لابتلاع المزيد من الأراضي والحقوق الفلسطينية من دون مقاومة فلسطينية حقيقة...نحن نعرف أن إسرائيل ستمضي في مخططها الاستيطاني التوسعي، بالانقسام أو بدونه، بل وربما تتوسع في أنشطتها الاستيطانية، وتقدم على ضم المستوطنات الكبرى – رسمياً – إلى إسرائيل كخطوة عقابية للشعب الفلسطيني على نجاحه في استعادة وحدته، لكن الثمن الذي يمكن أن تدفعه إسرائيل في حالة استعادة الوحدة، أو الثمن الذي يجب أن تدفعه بعد استعادة الوحدة، يجب أن تكون كلفته باهظة، فالوحدة والمصالحة، إن لم تنجحا في رفع كلفة الاحتلال والاستيطان، كأنهما لم تكونا.
لا نريد أن نذهب إلى الاستنتاج بأن فرائص إسرائيل قد أخذت ترتجف وترتعد بعد إعلان الدوحة....لكن إسرائيل بلا شك قلقة ومنزعجة، لأن من شأن المصالحة إرباك حسابات الأمن والاستيطان الإسرائيليين...ولكي ينتقل الفلسطينيون من موقع “الإرباك” و”الإزعاج” إلى موقع “التهديد” و”الضغط” على “اليد الإسرائيلية المجروحة”، فلا بد أن تكون المصالحة مبنية على استراتيجية بديلة، تضع في صدارة أولوياتها، حشد كل الطاقات الفلسطينية في مقاومة الاحتلال ورفع أكلافه، وفرض العزلة والحصار إقليميا ودولياً عليه، وهذه مهمة لم تعد مندرجة في عداد المهمات المستحيلة، خصوصاً في مناخات الربيع العربي.
يجب توخي الحذر والانتباه الشديدين لموجة الهستيريا التي تجتاح دوائر السياسة والإعلام في إسرائيل منذ التوقيع على اتفاق الدوحة...ويجب التفريق بين ما هو “حقيقي” في ردات الإسرائيلية وما هو “مبالغ” فيه لغايات في نفس يعقوب وليبرمان ونتنياهو...”الحقيقي” في ردات فعل الإسرائيليين هو الانزعاج لكل الأسباب التي أوردناها سابقاً، أما “المبالغ” فيه منها، فالقصد منه، إرسال رسالة للعالم بإن الفلسطينيين، وليس الإسرائيليين، هم الذين يعرقلون المفاوضات ويعيقون عملية السلام، وأن فشل مفاوضات عمان الاستكشافية، لم يكن بسبب التعنت والشهية التوسعية الإسرائيلية، بل بسبب “النوايا التصالحية” التي كان يضمرها أبو مازن، مقترباً من حماس ومبتعداً عن إسرائيل أو عملية السلام، باعتبار أن المسارين متضادين تماماً كما ورد على لسان نتنياهو شخصياً.
على المنظمة والسلطة أن تدير معركة ما بعد “إعلان الدوحة” مع إسرائيل، بكثير من رباطة الجأش والثبات والصمود...عليها أن تديرها بكثير من التعقل والحكمة والحنكة....ذلك أن أوساطاً إقليمية ودولية واسعة، أيدت الاتفاق أو هي في طريقها إلى ذلك، بصورة معلنة أو مضمرة، يجب البناء على ذلك، ويجب البناء عليه بقوة، حتى لا تنجح إسرائيل في تفكيك بعض أطواق العزلة المضروبة حولها، وحتى لا يتحوّل الفلسطينيون إلى بؤرة استقطاب الضغوط والهدف الأسهل لها.
احباط الفيتو الإسرائيلي على المصالحة، لم يعد أمراً متعذراً، والانتصار في هذه المعركة بات أمراً ممكناً...وأحسب أن إرادة المصالحة المتوّلدة لدى طرفي الانقسام من جهة، والتوق الشعبي الفلسطيني للوحدة والتوحد من جهة، وسطوع نجم الحرية والكرامة في عالم الربيع العربي من جهة ثالثة، وضيق العالم المتزايد بالغطرسة والعنجهية من جهة رابعة، جميعها أوراق يمكن تحريكها واللجوء إليها لقطع الطريق على مرامي إسرائيل وسياساتها.
(الدستور)