انقذونا

- رغم الصرخات كافة التي تنطلق هنا وهناك، فإنّ التعليم العالي لا يبدو على أولويات اهتمام "مطابخ القرار"، أو ربما لا تشعر بحجم الأزمة المتنامية فيه، والتي تلوّث الجذور، وتنذر بمرحلة يصبح بعدها الإصلاح مستعصياً تماماً!.
آخر الإنذارات جاءت عبر التقرير الجديد لحركة "ذبحتونا" حول أوضاع العنف الجامعي في العام 2011. والأخبار غير الجيّدة على الإطلاق أنّ نسبة حوادث العنف قد ارتفعت بنسبة 100 % عن العام السابق؛ إذ وقعت في الجامعات 58 مشاجرة كبيرة، استُخدم السلاح (تصوّروا!) في 14 مشاجرة، وتخلل أغلبها تكسير المرافق الجامعية والاعتداءات المتبادلة.
النتيجة التي يصل إليها التقرير مهمة جداً "لم ينعكس للأسف- الحراك في الأردن على الجامعات". والسبب في ذلك، وفقاً للتقرير الملازم لهذا التقرير حول "واقع الحريات الطلابية"، يتمثّل في تغييب تمثيل الطلبة الحقيقي، والاختلال في عمل عمادات شؤون الطلبة، وأنظمة وقوانين تقمع حرية العمل الطلابي.<br />إلاّ أنّني ومع اتفاقي الأكيد مع هذا التفسير؛ فإنني أدعو إلى تفكير معمّق فعلاً في المفارقة المدهشة التي تتمثّل في غياب روح الحراك الإصلاحي عن طلبة الجامعات، بل وتجذّر الحالة المناقضة لذلك تماماً، أي العنف الجامعي، في وقت يقود الشباب في العالم العربي بأسره قاطرة المطالبات بالإصلاح والحرية والديمقراطية!
بالطبع، هنالك ظواهر مشجّعة في أوساط طلبة الجامعات بدأت بالانتشار، وتتمثّل في مجموعات تتماهى مع الحراك الإصلاحي، سواء في جامعة الطفيلة أو تجمع "أحرار" أو حتى قبل الربيع العربي في حركة "ذبحتونا"، التي أصبحت رقماً مهماً وأساسياً في رصد الخلل والقصور والمشكلات المقلقة في التعليم الجامعي.
بالرغم من هذه المجموعات والصوت الإصلاحي الذي نسمعه خافتاً في جامعاتنا، فإنّ المشهد الأكثر هيمنة على الجامعات وسمعتها وحالتها الداخلية يتمثل في مؤشرات العنف الجامعي، وتدهور مستوى التدريس والتعليم، وغياب أجواء المعرفة والبحث العلمي والحوار الثقافي والسياسي، مقارنةً بحالة الجامعات نفسها قبل عقود من الزمن!
ثمة سياسة طبّقت في البلاد بأسرها، قبل قرابة عقدين، وفقاً لدراسة كارثية أبدعها "عباقرة(!)"، فحواها أنّ "مواجهة الإسلاميين ومحاصرتهم وإضعافهم يمر عبر بوابة التعبئة العشائرية". وقد دفعنا جميعاً ثمناً لهذه السياسة
وما نزال- في صعود الهويات الفرعية وتعزيزها، وتراجع قيم الدولة والمواطنة والقانون. لكن الثمن الأكبر كان في الجامعات، ليس فقط بالضخ الجائر لآلاف الطلبة، ومن ثم محاولة تعبئتهم على النحو الذي أوصت به الدراسة، بل حتى في التعيينات ودور عمادات شؤون الطلبة، وتفريغ الجامعات من ملامح الحياة الصحية الطبيعية من حوارات ثقافية وفكرية وسياسية، ما خلق فراغاً كبيراً ملأته ثقافة بائسة هشّة.
في المحصلة؛ تقرير "ذبحتونا" يكشف أنّ المسار ما يزال متسارعاً نحو الأسوأ، وأنّ الإصلاح لم يدخل بعد إلى التعليم العالي، وهي نتيجة مرعبة؛ إذ كما صدّر التقرير خلاصاته "لا نية حقيقية للإصلاح على المستوى الوطني في ظل تغييب إصلاح التعليم العالي". ثمة توصيات متعددة، جميعها يساعد على انتشال الجامعات من هذا المسار، لكن العمل بهذه التوصيات يحتاج إلى من يستمع جيّداً إلى هذه الصرخات في "مطبخ القرار"، ويتخذ قراراً حاسماً فاصلاً بإحداث فرق نوعي ونقطة تحول في المسار، ومن ثم يتم ترسيم المعالم الجديدة لمسار الجامعات واختيار القيادات والكفاءات المستقلة التي تملك القدرة على اتخاذ المواقف التاريخية والمفصلية.
ذلك، فقط، هو ما يمكن أن ينقذ التعليم العالي ويحمي مستقبله ومستقبل الأجيال المقبلة والوطن من الانهيار والتقهقر!
(الغد)