بين إعلامين

- قد تكون الازمة السورية الاخذة في التفاقم دون اي وعد قريب بالانفراج نموذجا لكنها ليست استثناء قدر تعلقها بنمطين من الاعلام، فما يلاحظ في الاعلام الغربي وخصوصا البريطاني ان المقتربات من هذه الازمة يغلب عليها الطابع الانساني، وثمة إلحاح يومي ودرامي على هذا الجانب، وبخلاف ذلك فان الاعلام العربي في معظمه يغلب الجانب السياسي على معالجاته وفي المقدمة منه قسوة النظام والفظاظة العسكرية والامنية التي يواجه بها الشعب.
لكن حصيلة هذين النمطين من الاعلام، قد تفاجئ البعض ممن لا يعبأون بما بين السطور فالمعالجة التي يغلب عليها الانساني تفضي بالضرورة الى ما هو سياسي لكن من خلال مروره عبر الوجدان والعواطف البشرية.
بينما قد تقتصر المعالجات السياسية المباشرة على اثارة ردود افعال مؤقتة، وهذا ما يفسر لنا خطورة الاعلام الصهيوني الاقل تطرفا في ظاهره والذي يمررّ ما يشاء من خلال مشاهد ومواقف انسانية، لهذا ظهر شاعر صهيوني اسمه يهودا اميحامي بالنسبة لقرائه من الغربيين كما لو انه خارج السرب، لانه يلح على تفاصيل انسانية، ثم اتضح بمرور الوقت انه يمثل الظاهرة الاشد خطورة في الاطروحات الصهيونية. واذا كان الامر يحتاج الى مزيد من التوضيح فان الاعلام العربي في معالجاته لمجمل الحراك الشعبي في الوطن العربي يبدو اقرب الى ادانة نظم وحكومات اكثر من الانحياز للضحايا وهنا مكمن الخلل الذي طالما تنبه اليه الاعلام في الغرب، فهو اذ يبدأ انسانيا ينتهي سياسيا وبامتياز فيبدو بالنسبة له يخاطبهم كما لو انه بسبب فائض نصرته وانحيازه للناس يدين النظم الشمولية وشبه الشمولية التي تصادر حرياتهم وتحرمهم من حق الفطام السياسي وبلوغ الرشد الوطني. ذلك لانها في الاصل باترياركية ولا تعرف غير ثقافة الوصاية منهجا في الحكم.
وقبل ايام ومن خلال احد البرامج الحوارية المتلفزة اشارت صحفية عربية تقيم في بريطانيا الى ما هو قريب من هذه الملاحظات، لكن ما بقي غائبا عن التحليل هو الفارق الموضوعي بين نمطين من الرأي العام، فالاوروبيون مثلا لا تشغلهم شجون بلادنا بسبب استغراقهم في شؤون بلادهم، وذلك لسببين اولهما تاريخي ومن افراز الحقبة الكولونيالية وهو اعتبار اوروبا محور العالم ومركزه وما يحدث فيها هو الاهم، ورغم ان هذا التصور لم يعد بالقوة القديمة إلا انه ما يزال ماكثا في اللاوعي الجمعي للغربيين بصفة عامة، والسبب الثاني هو ان الرأي العام الذي يخاطبه الاعلام في الغرب ترسخت لديه ولاسباب ثقافية معايير مختلفة في الحكم على هذه الدولة او تلك من دول العالم الثالث بالتحديد. واذكر ان صحفيا بريطانيا علق ذات يوم على الخطابين المتبادلين لكل من جورج بوش الاب وصدام حسين قائلا ان اللغة المشتركة او الشيفرا مفقودة بين الخطابين، لان احدهما على الاقل وهو خطاب صدام الموجه الى الامريكيين كان اشبه بالمونولوج او بمن يحدث نفسه لقصور ملحوظ في فهم الولايات المتحدة ونمط التفكير السائد فيها.
والخلل المتكرر في الخطاب الاعلامي العربي هو اسقاط الذات على الاخر، وافتراض ان للغربيين الذاكرة السياسية ذاتها التي لدى العرب لهذا فالازمة السورية ليست استثناء من هذا السياق لكنها مجرد مناسبة للمقارنة بين نمطين من الاعلام واستراتيجياته وما يتجاوز الحدود اللغوية من اهداف سياسية بعيدة.
وثمة فارق قد يتضاءل امام العين المجردة ويصبح بدقة شعرة بين ان يكون الاعلام مع شعب ما لانه يتعرض للذبح وبين ان يكون معه لانه ضد النظام الذي يستبد به!!
(الدستور)