ما الذي تبقى من «المبادرة العربية الأخيرة» حيال سوريا ؟!

بكثير من التحفظ والتردد، استقبلت عواصم القرار الدولي والإقليمي المبادرة العربية في طبعتها الأخيرة، خصوصاً البند المتعلق منها بإرسال قوات حفظ سلام عربية – أممية إلى سوريا...ولقد جرى التعبير عن هذا التردد وذاك القلق بأشكال مختلفة...البعض فضل إمطار الجامعة العربية بوابل من الأسئلة حول مهام هذه القوة، وأي “سلام” ستحفظ، وما هو تفويضها، وهل يشترط نشرها قبول دمشق بذلك، أم أنها ستتولى تأمين الملاذات والممرات والمناطق الآمنة...إلى غير ما هنالك من أسئلة وتساؤلات.
معظم العواصم الغربية الوازنة، نأت بنفسها عن المشاركة في هذه القوة...عددٌ منها فضّل أن تكون الدول المشاركة فيها من غير الدول الغربية عموماً، على اعتبار أنه من غير المفضل وجود جندي غربي واحد على الأراضي السورية...معظم هذه العواصم، جدد الحديث المتحفظ والرافض للتدخل العسكري...وجميع هذه الملاحظات صدرت عن عواصم لديها أولويات أخرى، من الانتخابات في دولها إلى أزماتها المالية والاقتصادية فضلا عن انشغالها بملفات لم تغلق بعد، من العراق وحتى أفغانستان.
الأهم من كل هذا وذاك، أن الدول الأقل تحفظاً على المبادرة وبالذات في بندها الخاص بنشر قوة حفظ السلام، اشترطت الحصول على تفويض من مجلس الأمن، للقبول بالفكرة ابتداءً، والمشاركة فيها إن تيسر ذلك...والمعلوم أن مجلس الأمن يشترط موافقة روسيا والصين.
وهاتان الدولتان العظميان تشترطان قبول سوريا بهذه القوة، وسوريا رفضت بعد دقائق من صدور مقررات “فندق الماريوت” في القاهرة، المبادرة العربية جملة وتفصيلاً، في المعنى والمبنى، ما يعني استمرار الدوران في حلقة مفرغة، أو السقوط في قعر الهاوية المبكرة.
لكل هذا وذاك وتلك من الأسباب والعوامل، تبدو المبادرة العربية الأخيرة وقد ولدت ميتة...والأرجح أنه لن يتبقى منها سوى “البند التاسع” المتعلق بتوفير الدعم الدبلوماسي والمادي للمعارضة السورية، وقطع كل أشكال الاتصال مع النظام القائم في دمشق، وهذا على أية حال، ما يحصل عملياً منذ عدة أسابيع، حتى لا نقول منذ عدة أشهر، ولكنه سيكتسب بعد الاجتماع الوزاري في القاهرة “شرعية عربية”.
في تفاصيل المبادرة العربية، ثمة ما يؤكد أن دولتين عربيتين قادتا الاجتماع الأخير لمجلس الوزراء العرب ووجهتا نتائجه ومقرراته، مثل بقية الاجتماعات الأخيرة للجامعة، في ظل انشغال الدول العربية الكبرى الأخرى، بملفات أخرى عديدة، أهمها ترتيبات نقل السلطة وتحديات مرحلة الانتقال...فراغ المشهد السياسي العربي، ملأته الدولتان، متدثرتين بعباءة تصلح كـ”بطانة” للعباءة العربية التي ظللت القرارات الأخيرة.
لم يتوقف النظام السوري مطولاً عند المبادرة العربية، مع أنه رفضها جملة وتفصيلاً، وقد تأكد للأسد مدى صوابية و”بعد نظر” نصيحة لافروف له بإبقاء الملف السوري في عهدة مجلس الأمن بدلاً عن تركه للجامعة، بحجة ان الجامعة ، أقسى على النظام السوري من مجلس الأمن، وفي نيويورك يمكن لروسيا أن “تفرد” عضلاتها وتستعرض قوتها، بينما ينعدم أثرها ودورها حين يتصل الأمر بالقاهرة وجماعتها ونبيلها العربي.
الأولوية الأولى بالنسبة للأسد الآن على ما يبدو، تتجلى في ترجمة تفاهماته مع لافروف وفرادكوف...السير في طريق “الحسم العسكري” بسرعة و”جراحة موضعية ما أمكن”، وهذه العملية تسير بتكاليف باهظة على الأرض، وقد سجّلت بعض التقدم في مناطق (ريف دمشق والغوطة الشرقية)، وتواجهها عثرات في أخرى (حمص وبعض ريفها) وتنتظرها مواجهة كبرى في إدلب وجوارها.
أما المسار الثاني، لتفاهمات الأسد مع موفدي بوتين وميدفيدف، فهو تسريع المسار السياسي، ولعل في تقديم موعد الاستفتاء على الدستور الجديد، والحديث عن تقديم موعد الانتخابات الرئاسية، وتفويض الأسد صلاحيات “جدية” لنائبه لإدارة الحوار مع المعارضة وتشكيل حكومة ائتلاف معها، لعل هذه الخطوات هي ما يُنتظر الإعلان عنه في قادمات الأيام والأسابيع.
على أية حال، ستشهد الأزمة السورية خلال الأيام القادمة تصعيداً في وتائر المواجهات الميدانية، خصوصاً ان التزم بعض العرب بمقررات اجتماع القاهرة الوزاري الأخير...هبوط السلاح والمال على المعارضين في الداخل سيعزز قدرتهم على “الصمود” والقتال، والأسد متسلحاً بـ”الفيتو المزدوج” يبدو سائراً على طريق “الحسم العسكري” مع “المناطق المحررة”...ثمة سباق ما بين “الحسم” أو “اللاحسم” ميدانيا، لأنه سيتقرر على ضوء نتائجه، طبيعة المرحلة الجديدة التي ستلجها سوريا، فإن قُدّر للنظام أن يعيد بسط سلطته على مختلف الأراضي السورية، فإن ذلك من شأنه تجريد خصومه الخارجيين من ورقة قوية، وإن قُدّر للمعارضة أن توسّع جيوب المناطق المحررة، فمعنى ذلك أن فكرة الملاذات والممرات ستظل مطروحة على جدول أعمال الدول العربية والغرب عموماً.
والمؤسف حقاً أن أتون المواجهة الذي يستعر في سوريا، والذي بلغ في الأيام الأخيرة حداً غير مسبوق، جعل من استمرار “الثورة السلمية” أمراً غير ممكن، وغير قابلٍ للاسترجاع...وسواء تم ذلك بفعل أخطاء المعارضة أو قسوة النظام وهمجية وسائله، أو كلاهما، فإن النتيجة في جميع الحالات واحدة، وهي أن “الثورة السورية” قد تضاف مع قادمات الأيام إلى قائمة “الثورات المغدورة”، من دون أن يكون النظام قد نجح في تسجيل اسمه في قائمة “المنتصرين” وكأنه كتب على سوريا أن تواجه معادلة “خاسر – خاسر” مرة ثانية.
(الدستور)