أي كوكب وأية قرية ؟؟

خدعنا ذلك الذي قال بأن الكوكب الذي نعيش عليه هو قريتنا، فقد صدق المسكين ان التواصل عبر التكنولوجيا يكفي، أو ان العولمة في طبعتها الامريكية المنقحة تبرر هذا التصور، والحقيقة ان تضاريس هذا العالم اجتماعيا وطبقيا وعلميا وصحيا أصبحت اكثر بروزا، فما كان مرسوما بقلم الرصاص او الطباشير اصبح اسوارا وأخاديد توشك ان تصل الارض بالسماء. ولكي نبدأ من الآخر كما يقال الآن بسبب الضجر ونفاد الصبر، فان آخر الامثلة قادم من سويسرا التي أعدت مشروعاً لتنظيف الفضاء حول الارض، بعد ان حققت النظافة في حياة الناس وشوارعهم وبيوتهم، اذن ثمة من يعانون من فائض النظافة بحيث يسافرون الى الفضاء لتنظيفه مقابل من يعانون من فائض النفايات النووية التي ترمى في بحارهم، ومن فائض النفايات التي يشتبك فيها الاطفال المشردون مع القطط ويفقدون خصوصيتهم كما حدث اكثر من مرة عندما التهمت القطط اعضاء الاطفال.
هناك اذن من لا يعرف النظافة بدءا من جسده وما تحت قدميه ويدعي بأن العالم قريته لأنه يملك الصندوق السحري الذي يوصله بالعالم افتراضياً، فقد يجوب القارات كلها دون ان يتسخ حذاؤه ويتسكع على ارصفة المدن كلها وهو جالس بثياب النوم وحاف، ليكتشف اخيراً انه المنبت الذي لا واقعا جديدا قطع ولا عالما قديما ابقى، فهو يتأرجح بين ذاكرة وخيال كبندول الساعة تماماً ولا يمكث حتى دقيقة واحدة في الحاضر.
لم يكن التفاوت كارثيا ذات يوم بين الاغنى والافقر والاعلم والاجهل والمريض والمعافى كما هو الحال في العالم القرية وحسب الاحصاءات التقريبية فان ملياري جائع ومليار شريد هم نصف سكان هذا الكوكب، وثمة ملياران آخران لا يكفان عن الكدح خوفاً من الجوع والتشرد بعد ان اصبحت فوبيا الفقر اشد تنكيلاً بالبشر من الفقر ذاته.
اذكر ان الكاتبة الفرنسية سيمون دو بوفوار كتبت مقالة ساخرة قبل اكثر من نصف قرن عندما قرأت مانشيت احدى الصحف الذي يقول ان الانسان وصل الى القمر.. وتساءلت باشفاق وسخرية معاً.. من هو هذا الانسان الذي تقصدون؟ هل هو الامريكي الذي ابتلع ثلاث قارات واصيب بالتخمة أم الافريقي الذي كانت آخر وجبة في حياته قبل ان يموت جوعاً هي الأسمال التي يرتديها؟
حتى من يتحدثون عن المرأة وأحوالها في العالم القرية ينسون او يتناسون مئات الملايين من الأسيرات والمحكوم عليهن بالحياة في بيوت الدمى كما في مسرحية شهيرة لابسن.
ان ذروة التواصل هي ذروة العزلات الحقيقية، وتلك هي مفارقة المفارقات كلها في عصرنا، ويكفي ان نقارن بين متوسط الدخل والعمر وكل شيء في هذا العالم الذي يأكل بعضه كي نتحقق من ان الأقنعة كلها تساقطت عن وجه الذئب الذي يظهر احياناً بصورة غزال واحيانا بصورة أرنب أو حمل.
ومن يشاهدون افلاماً وثائقية عن العشوائيات العربية وغيرها في هذا العالم يصابون بالدهشة مما يرون ويسمعون، فالحيوانات تعف عن مثل هذه الحياة، وقد تكون جحورها أنظف، فلا ماء ولا كهرباء ولا هواء الا ما ينتجه زفير الكربون، واذا صدقت الارقام فان هذا الكوكب لم يشهد شقاء في تاريخه يعادل شقاءه الآن، فاضافة الى المجاعات والظمأ والشحة في كل شيء يقتل الناس بعضهم لاسباب لا يبررها غير الجنون.
ولو أعدنا تعريف مفهوم الفقر فان اكثر من تسعين بالمئة منا فقراء، لاعتقادهم ان من لا يملك سيارة جيدة هو فقير، وان من لا يقتني اجهزة كهربائية متطورة من الجيل الرابع هو فقير..
اما الذي يجري وراء أكمات هذا الواقع المضلل وكواليسه فهو الكثير المسكوت عنه والمتواطأ عليه من الجميع، فالناس ينفقون على مساحيق تجميل فقرهم لاخفائه كما لو كان عورة ما هو على حساب صحتهم ونظفاتهم ومستقبل ابنائهم. وحسب ما لاحظ صحفي فرنسي طاف عالمنا العربي فان هناك مشاهد مثيرة، منها كما قال شفاه مصبوغة بعناية واسنان محطمة وثياب انيقة تخفي أنيميا تسرب شحوبها الى الوجه والعينين، ومنها انفاق معظم الدخل على العطور لاخفاء رائحة العرق، والنسيان بأن للجهل رائحة لا تطاق لكن لا يلتفت الا القليلون لازالتها بالثقافة وتطوير الوعي.
ويقولون بملء الفم ان العالم قريتهم والحقيقة ان العزلة وانخفاض منسوب الوعي يحول قريتهم الى عالم وليس العكس!!
(الدستور)