يسقط الرئيس القادم!!

- لم أشهد مثل هذه اليافطات كي أزعم بأنني أحد شهود العيان، لكن مثقفاً مصرياً هو د. معتز عبدالفتاح روى ذلك على احدى الشاشات الفضائية المصرية بالأمس، واعلن استغرابه من شعار يطالب رافعوه باسقاط الرئيس القادم!
ما نخشاه هو أن الظمأ المزمن للعرب المعاصرين الذين حرموا من بَلِّ الشفاه هو المسؤول عن اندفاعهم بهذا العنفوان الى الاعتراض على كل شيء، حتى على الشيء الذي حلموا به هم أنفسهم ومنهم من قُتل في سبيل تحقيقه.
كيف يمكن لنا ان نطالب باسقاط رئيس لا نعرفه، ولم يأت بعد، رغم ان هناك وعوداً حاسمة بأن انتخابه سيكون نزيهاً ومشهوداً له من الاقرباء والاباعد؟؟
هذا الشعار بكل راديكالية يطرح علينا سؤالين أولهما ان المعارضة عندما لا تضبط سهم بوصلتها قد تتحول الى معارضة لأجل المعارضة فقط.. وتتحول الى نمط تفكير لا يقبل على الاطلاق الاختلاف، والمعارضات على اختلافها باستثناء تلك التي ترتهن لاستراتيجيات قوى ذات مصالح ومطامع ليست من هذا الطراز بحيث تعلن العصيان على مستقبل لم يتضح بعد خيطه الأسود من خيطه الابيض، وهناك نظرية في الفوضى قبل ان يتم تصنيفها في عصرنا الى خلاقة أو مدمرة تنسب الى "باكونين"، وكان لها اصداء في مختلف القارات بدءاً من اوروبا، واذا صح لنا ان ننسب شعار يسقط الرئيس القادم الى نظرية أو شخص كما يقال عن الستالينية والتروتسكية وغيرهما فان هذا الشعار باكونيني بامتيازين: الامتياز الاول هو المصادرة على ما سوف يحدث قبل حدوثه، وهذا بحد ذاته مضاد للمنطق، والامتياز الثاني هو ابقاء الحراك بمعزل عن كل ما استجد أو تحقق من اهدافه بحيث يتحول الى نافورة تسيل دماً حول نفسها وليس الى نهر يبحث عن مصب.
اننا نحتاج الى قدر من المعرفة بعلم النفس السياسي أو حتى الانثربولوجيا السياسية كي نتعامل مع هذا الفائض من الكبت المزمن والظمأ الذي شقق الشفاه طيلة عقود من المصادرة على حق التعبير والاختلاف في ثقافة بلغت حداً من الاستنقاع السياسي والاجتماعي بحيث كاد الناس ان يسلموا الأمر ويكون اقصى عصيانهم حسبي الله ونعم الوكيل.
سيمر الكثير من الوقت قبل ان يهدأ هذا البركان وينتهي من لفظ حممه لأن ما تراكم فيه كان لعقود طويلة يبحث عن قشرة هشة من الارض كي يندلع منها، ومن يتحدثون عن الأميات سواء كانت ابجدية أو في حدود التعليم أو سياسية لا يضيفون أمية ثالثة تحتاج هي الاخرى الى محو، انها الامية الديمقراطية.. فمن أتيحت لهم الآن كانوا من قبل كمن يتعلمون السباحة على السرير أو الرمل وفي أحسن الاحوال في البانيو.
ومحو الأمية الديمقراطية لا يبدأ بتهجئة الحروف أو الدرس الاول الذي نحفظه جميعاً وهو راس .. روس، بل من تدجين حضاري للغرائز، وكبح شهوة الاستحواذ والامتلاك، اضافة الى دروس طويلة في تشذيب الانانيات المتوحشة بحيث يصبح الاعتراف بأن هناك آخرين خارج الذات ممكنا.
لكن يبدو اننا نعيش زمناً من طراز عجيب وغير مسبوق يكون فيه التفاوض مع العدو مكتفياً بذاته أي تفاوض من أجل التفاوض فقط، وقد ينسحب هذا الاكتفاء الذاتي على نمط من المعارضات الراديكالية التي تفتقر الى البوصلة، بحيث تكون مجرد ادمان للمعارضة!
ان التفهم النفسي والتاريخي لهذا النمط من الشعارات ممكن شرط ان يلتفت من يعالجونها كثيراً الى الماضي وما ترسخ وترسب منه في الذات الجريحة كما يسميها النفساني العربي د. علي زيعور أو الذات المقهورة كما يسميها نفساني آخر هو د. مصطفى حجازي الذي كرس كتاباً مهماً لمعالجة هذا الوباء النفسي والاجتماعي.
واذا كان هناك شعرة فاصلة بين الثورة والفوضى، فان المطلوب من العارفين بالاثنتين معاً ان يخرجوا عن صمتهم، الذي لاذوا به خوفاً من سوء الفهم أو التأويل.
(الدستور)