إكذِبْ عَلَيْنا!!

- تلك أغنية فيروزية تبرر كذب العاشقين لان الكذب في الحب ليس خطيئة، لكن الكتابة في السياسة وشجونها خصوصاً في هذه الآونة لا يتيح الكذب، وان كان الساسة يكذبون باحتراف غير عابئين بضبطهم متلبسين بالكذب فان الكتابة شيء آخر، واطرف ما سمعته من قارىء عزيز قبل ايام التقيته مصادفة هو اكذب عليّ، فلا بد من نافذة في هذا الجدار. ولم أشأ ان امضي في الحوار حتى نهايته الحزينة.. فقلت له، لو كذبت عليك وحدك سأجد نفسي أكذب على الناس جميعا لأنني لا اكتب لمرسل اليه واحد. ويبدو ان الناس بلغ بهم اليأس حداً مروعاً، بسبب غموض المشاهد التي تبث على مدار الساعة وكثرة الدم المنسوب الى ضمير الغائب او نائب الفاعل، فقرروا ان يدافعوا عن حقهم في الحلم حتى لو كان ذلك على طريقة: اكذب عليّ لكن أليس ما ندفعه الآن من أثمان باهظة هو حصاد ذلك الهشيم سواء كان من وعود عرقوبية ممنوعة من الصرف او من كذب؟ فلو كانت الزجاجة كما يقال مملوءة بالماء أو الدم أو الدمع حتى نصفها لصدقنا فان النظر الى النصف الاسفل الممتلىء منها خير من التحديق في الفراغ، لكن الزجاجة الآن فارغة الا من هواء فاسد بعد ان بيع المطر والدم والدمع والعرق وسائر السوائل التي يفرزها هذا العالم في مزادات سرية واخرى علنية.
يبدأ الكذب برسم نوافذ على جدران تكاد أن تطاول السماء لكن مثل هذه النوافذ والأبواب المرسومة لا تخدع أحداً الا إذا كان أعمى، وهو أيضا سوف يرتطم بها ويكتشف الخديعة لكن بعد أن تشجّ الحقيقة رأسه!
أعرف اننا بحاجة الى جرعة ولو خفيفة وبيضاء من الكذب في هذا المدار المغلق، بعد ان اصبح وطن بمساحة قارة أضيق من زنزانة، وبعد ان اصبح ثلث مليار انسان أقل عدداً من خمسة ملايين، فالحواسيب ليست ذكية بما يكفي لتقول لنا الحقائق كما هي، والبوصلات أصبحت عرضة للشك في اتجاه سهامها والجهات التي تؤشر لها. لكن القليل من الكذب كالقليل من الخمرة، سرعان ما يتضاعف عبر متوالية الادمان. وقليله ككثيره حرام ايضاً. فماذا نفعل اذن؟ هل نكون كذلك الطبيب القاسي والفظ الذي يصدم مرضاه ويخبرهم بأنه ما من رجاء في الشفاء؟ أو يردد تلك الموعظة المليئة بالقنوط وهي فالج لا تعالج.؟ ام نكون كالطبيب الاخر الذي يبتسم في وجوه مرضاه، ويصف لهم حالاتهم عبر جرعات متصاعدة لكنها مغلفة بكلام حنون؟ نحن نعرف اطباء اصدقاء من هذا النمط الناعم. لكنهم غالبا ما اضطروا الى مصارحة مرضاهم بالحقيقة كي لا يفوت الاوان. فالانسان بفطرته يميل الى ما يكرس له قناعاته ويتملق مزاجه ويدلك عواطفه وهذا ما يسميه المتخصصون في علم النفس الرغائبية، بحيث لا يرى الانسان من المشهد كله غير ما يريد، ولا يسمع من كل هذا الضجيج الكوني غير ما يطيب له سماعه.
ان اليأس الكامل ليس من هذا الوجود وليس من التاريخ ايضا، واحيانا ينبثق الرجاء من ذروة اليأس، لان جدلية الحياة وصيرورتها هي حياة من الموت وفرح مباغت في اقاصي الحزن، وثمة مواليد في هذا العالم يزيد عن عدد من يموتون، ومن بذور شجرة تسقط قد تنبت غابة صبية بكل عنفوانها الاخضر.
لسنا مضطرين للكذب اذن، حتى الكذب على الطريقة الفيروزية قد يسر العاشق لبعض الوقت لكنه يضاعف من حزنه فيما بعد عندما يكتشف ان هناك من كذب عليه ليرضيه ثم صدق ليدمي قلبه في لحظة الفراق.
ما نخشاه ويصيب قلوبنا بالهلع أن هناك نيرانا تطلق على براعم الشجر ومهود الأطفال وقد تطال القمر والنجوم ايضا لانها تحاول الاعتذار عن تدمير الكهرباء تماما كما يعاقب المطر ويباع اذا اعتذر للظامئين من انقطاع الماء!!
(الدستور)