الجنرال الأبيض!!

المدينة نيوز - ما ان يعلن عبر الارصاد الجوية عن قدوم هذا الجنرال الابيض حتى يزدحم الناس في طوابير على الافران، وعلى الوقود بمختلف مستوياته واسعاره وما ينتج عنه من كوارث بسبب سوء الاستعمال. وبالامس ذكرتني التماثيل البيضاء سواء تلك التي بناها اطفال او بالغون من الثلج بما كتبته مس بل البريطانية قبل ما يقارب القرن، خصوصا في رسائلها الى ذويها، تقول مثلا انها احترفت صناعة جنرالات وساسة من الثلج، ما ان تكتمل ملامح التمثال حتى يبدأ بالذوبان، لهذا فلم تكن صناعتها من النوع البريطاني الثقيل، وليس فقط ما قالته مس بل في رسائلها هو ما استدعاه الجنرال الابيض في ذاكرتي، ولا بد ان الكثيرين شاركوني تلك اللحظة التي تحول فيها جهاز التلفزيون الى قطعة اثاث عديمة الفائدة بعد ان تعطل الستالايت بسبب تراكم الثلج. وهي لحظة العودة الى الراديو، الجهاز الصغير المسكين الذي كان ذات يوم بطل الاعلام ثم انتهى الى مجرد كومبارس منسي في احدى زوايا البيت، فقد مرّ زمن كان من يملك فيه راديو السيارة هو مصدر الخبر، بل المغناطيس الذي يحول اهل القرى واحياء بعض المدن الى برادة حديدة تتحلق حوله وتكاد ان تعلق به.
واعترف بانني اعدت اكتشاف هذا الجهاز الصغير بعد انقطاع طويل عنه، وسمعت منه ما لا اسمعه من الشاشات الملغومة وخصوصا تلك التي رشح منها الدم او يوشك رذاذ اللعاب لبعض المتحاورين فيها على طريقة صراع الديكة ان يصيبنا!
سمعت موسيقى، وبرامج ثقافية هادئة وحوارات لا استعراض فيها لان من يتحاورون لا يظهر منهم غير اصواتهم، بعكس الشاشة التي تتحول الى مسرح، يشهر فيه كل دون كيشوت سيفه الخشبي. وكانت تلك مناسبة ايضا للاصغاء وبمحض الصدفة الى اذاعة بريطانية تحتفل بمرور ثمانين عاما على انشائها هي محطة بي بي سي، ومن ضمن برامج الاحتفال بالذكرى سمعت مثقفين وفنانين من مختلف عالمنا العربي، فهم مثلا من سبح بحمد الملك فاروق لفرط اعجابه به، ثم اصبح احد ابرز الهجائين له ولعهده بعد انتهاء عهده انها مناسبة لان ندعو كل الاذاعات ووسائل الاعلام ما قبل هذه الحقبة الفضائية الصاخبة لان يفتحوا الارشيف، كي يتبدد العجب بمعرفة السبب الذي ادى الى انحطاط قومي، ساهم فيه مثقفون من ذوي الاقنعة الذين لبسوا لكل عهد لبوسه، وتفننوا في هجاء من مدحوا حتى لمعان احذيتهم.
كانت فرصة منحني اياها الجنرال الابيض عندما جثم على الستالايت لكي اسمع اناسا تحدثوا في الشأن العام قبل اربعين وخمسين وستين عاما. ومنهم من غاب الى الابد، لكن منهم من لا يزالون يتلاعبون بالرأي العام مستخدمين اسماءهم وتواريخهم كذخيرة كي يكون الاغواء اكبر، والتضليل اشد.
وذكرني هذا الجنرال الابيض بما قيل يوما عن الروايات الكبرى والسمفونيات التي الفها كتاب وموسيقيون روس بفضل الثلج والبقاء لايام طويلة في بيوتهم امثال ديستوفيسكي وتولستوي وتشايكوفسكي واخرين!
ان ما يقال على سبيل ملء الفراغ فقط عن هذا الضيف الابيض هو نصف الحكاية.
فهو نظيف وناصع وبكر الى ان يصل الارض وتلوثه الاقدام ويسقط في حاويات النفايات ثم يتحول بعد لحظات من هبوطه الى لون داكن اقرب الى لون ماء الغسيل.
شكرا ايها الجنرال الثقيل، فان لك فضائل لم اكن اعترف بها بعيدا عنك.
ويكفي ان تماثيلك هي من طراز جنرالات المس بل.. ما ان تكتمل حتى تبدأ بالتلاشي!
(الدستور)