كيف نشد الرحال للأقصى والقدس؟!

المدينة نيوز - لست من أنصار زج الدين بالسياسة، ولا أنا من المعجبين بإشهار “سلاح الفتوى” في إدارة الخلاف السياسي أو في السعي لحسمه لصالح هذا الفريق أو ذاك، ولطالما سجّلنا في هذه الزاوية بالذات، مراراً وتكرارا، ومنذ سنوات وفي غير مناسبة، مواقفنا حيال هذه المسائل.
ولم أنظر يوماً للشيخ القرضاوي بوصفه مرجعية للإسلام والمسلمين، أو حتى لأهل السنة والجماعة منهم...ولا أنا من المؤمنين بالحاجة لوجود مثل هذه المرجعية أصلاً، فللدين حقله وللسياسة حقولها، وبينهما “برزخ لا يبغيان”... ولطالما نظرت بكثير من الشك والتشكيك إلى”فتاوى” القرضاوي، التي تبدو لي في غالب الأحيان، كذراع للدبلوماسية القطرية، فهو كاد أن يرقى بالأسد الإبن إلى مرتبة صلاح الدين الأيوبي، عندما كان صديقاً لقطر و”محور المقاومة والممانعة”، و هبط به إلى مرتبة “أبو لهب” عندما تغيرت اتجاهات هبوب الريح القطرية، مُفتياً بجواز اللجوء إلى “جيوش الفتح الأطلسي” لإقتلاع “طاغية دمشق” واجتثاث عرشه ؟!.
هذه المقدمة تبدو أكثر من ضرورية ونحن نسهم في الجدل الدائر فلسطينياً حول صحة أو خطأ دعوة العرب لزيارة القدس والأراضي المحتلة، وهي لمّا تزل رازحة تحت نير الإحتلال...ذلك أن هذا الجدل يشهد حالة من التشنج والإستقطاب، تذهب به بعيداً عن غايته وأهدافه..، فأنت مع قطر والقرضاوي إن أنت جادلت بعدم صوابية الفكرة، وإن أنت كنت من أنصارها، فلا أقل من “تخوين” قطر و”تكفير” القرضاوي.
والمؤسف أن الذين يحملون على القرضاوي و”من هم وراءه” هم أنفسهم من أغدقوا آيات المديح والثناء، جملة وليس بالتقسيط، على الدوحة وقطر، قبل أيام، وقبل أيام فقط، عندما استقبلت لقاء المصالحة وتوجته بإعلان الدوحة، ومن بعده بأسابيع قلائل، عندما نظمت “المؤتمر الدولي للتضامن مع القدس”، وما انتهى إليه من قرارات وتوصيات معروفة.
على أية حال، نحن نفهم ضيق الفلسطينيين شعباً وقيادة، من إحجام العرب والمسلمين عن نصرة القدس...نحن نفهم تمام الفهم، الضائقة التي تعتصر القدس والمقدسيين بخاصة...فلا العرب أوفوا بالتزاماتهم وتعهداتهم حيال “أولى القبلتين وثالث الحرمين الشرفين”... ولا صناديق القدس والمقدسات إمتلأت بأموال الدعم والصمود... بيد أننا نخشى أتم الخشية، من أن تأتي دعوة “شد الرحال” بنتائج مغايرة تماماً، فتكون حصيلتها لصالح إسرائيل، ولصالحها وحدها فقط.
لسنا من أنصار “شدّ الرحال” إلى القدس والمقدسات وفلسطين، طالما أنها ما زالت ترسف بقيود الإحتلال، ولدينا فيما نذهب إليه، أسبابنا التي نعتقد أنها وجيهة للغاية، وفيما يلي بعضٌ من أبرزها:
أولاً: لا يمكن ل”شدّ الرحال” هذا، وفي ظروف الإحتلال بخاصة، إلا أن يكون شكلاً متقدماً من أشكال التطبيع مع إسرائيل، فالمرتحلون الذين سيشدون رحالهم للقدس، سيأتون على صورة فرق وأفواج سياحية، بعد تحصيلهم على التأشيرات من السفارات والقنصليات الإسرائيلية التي سيتعزز انتشارها على طول بلاد عرب والمسلمين وعرضها...وهم “سيدخلونها آمنين” عبر المطارات والمعابر الإسرائيلية، ويقضون معظم لياليهم في فنادق إسرائيلية، وسينفقون مالهم الوفير لصالح مؤسسات ومنشآت إسرائيلية... فهل ثمة تطبيع أكثر من هذا التطبيع؟
ثانياً: السلطة والمجتمع الفلسطينيون يخوضان بتردد حتى الآن، معركة ضد “التطبيع” مع الاحتلال...ولقد شهدنا احتفالات رسمية بحرق البضائع الإسرائيلية في رام الله، كيف سيكون مصير هذه المعركة في الوقت الذي ندعو فيه العرب والمسلمين إلى ولوج بوابات الاحتلال أفواجاً ووحدانا، للوصول إلينا...كيف ندعو للشيء ونقيضه؟!...نريد لمعركة الفلسطينيين ضد التطبيع أن تستأنف تساعدها، لا أن نفتح ثغرة جديدة يتسلل عبرها، أنصار التطبيع.
ثالثاً: هل يعقل أن تدعو السلطة التي تشكو ليل نهار من أن “لا سلطة لها”، العرب والمسلمين لزيارة القدس التي تخضع بالكامل للسيادة الإسرائيلية، وهي التي تقترب من النقاش حول مستقبلها هي بالذات، وتخشى التحوّل إلى “وكيل أمني” و”الإستيقاظ ذات صباح على وقع بناء مستوطنة في المقاطعة”...كيف يمكن ل”شد الرحال” أن يصب قمحاً في طاحونة دعم الصمود وخدمة المشروع الوطني الفلسطيني؟!
رابعاً: في الوقت الذي نتطلع فيه إلى استكمال مسار المصالحة للإنتقال لبحث استراتيجية العمل الوطني الفلسطينية البديلة، والتي تنهض أساساً على المقاومة الشعبية ومطاردة إسرائيل في مختلف الساحات وجميع المنابر والمحافل، وإحكام أطواق العزلة حولها ونزع الشرعية عن احتلالها واستيطانها...في هذا الوقت بالذات، تأتي دعوة من هذا النوع لتبعث برسائل في الاتجاه الآخر، وتعيد خلط الأولويات وتثير انقسامات وجدل ما كنا بحاجة له على الإطلاق.
نأمل أن نغلق هذا الملف بأسرع وقت ممكن، وأن لا تأخذنا العزة بالإثم... فلسنا بحاجة للجدل مع القرضاوي بما يمثل ومن يمثل... ولسنا بحاجة لاستئناف الاشتباك مع قطر، نحن أصحاب نظرية “النأي بالنفس” عن المحاور والخنادق العربية البينية.
دعونا نبحث عن وسائل وأسلحة أخرى للذود عن القدس وتدعيم صمودها...دعونا نكون أول من يشد الرحال إليها بعشرات ومئات الألوف من المتظاهرين والمحتجين السلميين...دعونا نجعل صلوات الجمع، كوابيس تؤرق مضاجع الاحتلال...دعونا نستنهض الشوارع العربية لنصرة القدس والمقدسات... دعونا نفضح المقصرين من أصحاب الجيوب المنتفخة لتقديم ما يسهم في إنقاذ القدس وتدعيم صمود المقدسيين...دعونا نحكم أطواق العزلة حول إسرائيل ونبني جُدراً في مواجهة التطبيع معها...دعونا ننصرف لإنجاز أجندة المصالحة الوطنية، فلا حاجة بنا لهذه المناوشات الجماعية.
(الدستور)