عبد الرحمن الكواكبي والإصلاح اليوم

المدينة نيوز - يشعلك الكواكبي حماسا واندفاعا ويملؤك ثقة ويجبرك على التلويح له تقديرا واحتراما وأنت تقرأ تشخيصه القيّم, وفكره وطرحه العميق, ورؤيته الثاقبة, وتخصصه في فهم طبائع الاستبداد.
وكأنّما يتحدث عن الربيع العربي اليوم, ويتحدث عن معاناة المصلحين مع الفاسدين والمستبدين ومجتمعاتهم أحيانا, الذين ألّف فيهم معلقته السياسية العملية الشهيرة طبائع الاستبداد وأم القرى.
ولا غرابة من نباهته وجرأته وعدم يأسه, وحسن تشخيصه وصوابيّة وصفه للعلاج وكأنّه يعيش معنا في مسيرات الحسيني والكرك وجرش وإربد ومأدبا والطفيلة ومعان والكورة وعجلون و..، وكأنّما يحضر لقاءات الشباب والتجمعات الإصلاحية، أو يرسل مندوبا عنه بورقة مكتوبة واضحة تمثّل وجهة نظره في الخلاص, لأن الظلم هو الظلم والاستبداد هو الاستبداد والفساد هو الفساد، فلا دين ولا هوية ولا أرض له ولا قومية ولا سند له ولا مسوغ, ولا يقبله مخلوق واع، حتى العجماوات فإنّها تنشد الحرية.
وقد أحسن المعهد العالمي للفكر الإسلامي صنعا عندما عقد مؤتمرا خاصا في عمان عن (حركة الإصلاح في العصر الحديث، واختار عبد الرحمن الكواكبي نموذجا), وله الشكر على نشر وقائع الندوة في كتاب قيم أنصح المعنيين بإصلاح بلدهم وإنقاذ الأمة باقتنائه.
حتى لو اختلفت معه في بعض الفرعيات فستتفق معه في جل ما يقول، وخاصة إن تجنّبت النظرة الضيقة وعلمت أنّه توفي قبل مئة وأحد عشر عاما تقريبا.
* يقول عن الاستبداد الذي نعاني نتائجه كما عانى: في عهد الاستبداد تتحوّل الأخلاق إلى مجموعة التقاليد التي تهدف إلى ترسيخ واقع القهر والتمكين له.
* ويقول: إنّ شيوع أخلاق الملق والنفاق والريبة والأثرة التي تشغل أسير الاستبداد بمصلحته القريبة, ويرغم الأخيار على إلفة الرياء والنفاق!
يُعرّف الاستبداد بأنّه تصرُّف فرد أو جمع في حقوق قوم بلا خوف ولا تبعة.
* ويقول: إنّ الاستبداد يورث الأجسام الأسقام، فيسطوا على النفوس فيفسد الأخلاق ويضغط على العقول فيمنع نماءها.
* ويحصر مشكلة الأخلاق بأنّها حرب إرادات بين الحاكم المطلق والرعايا المحكومين.
* ويقول: الاستبداد يجعل الأمة مجموعة عميان, لا يميّزون, لأنّهم رأوا أنّ التسليم أهون من التبصير, والتقليد أستر للجهل.
* يقول أنّ أصل الداء الاستبداد السياسي, ودواؤه الشورى الدستورية.
* وما أوعاه عندما قال: العبرة بالنظام لا بالفرد، وإنّ النواقص التي تلازم أنظمة الحكم الاستبدادية لا يمكن أن تُعالَج بالتغييرات أو التبديلات التي تحدث للأفراد ولا تتناول سوى الأشخاص، بل هي تحوّل الأشخاص الصالحين إلى أشباه مستبدّين في أحسن الأحوال.
لِمَ لا تصفّقوا للكواكبي يا أيّها الإصلاحيين؟
* ويتحدث عن الحرية المنشودة اليوم قائلا: الحرية أن يكون الإنسان مختارا في قوله وفعله، لا يعترضه مانع ظالم, ومن فروعها تساوي الحقوق ومحاسبة الحكام باعتبار أنّهم وكلاء عن الشعب, وإذا فقد الإنسان حريته يسأم حياته فيستولي عليه الفتور ويصيبه الخمول، فتتعطل فيه كل إرادة للعمل والإبداع.
* وأمّا مشروعه لمقاومة الاستبداد فيمكن تلخيصه بثلاثة عناصر، الوعي، والتدرج السلمي، فيقول أنّ الاستبداد لا يقاوم بالشدة إنّما باللين والتدرج، والثالث تهيئة البديل.
* ويتحدث عن تزييف وعي الجماهير، فيقول: إنّ من وسائل المستبد في ذلك ما يلي:
1- إقناع المجتمع أنّ مشكلاتهم تنتج عن أسباب أخرى غير إسبابها الحقيقية، فيقول للعاطلين عن العمل أنّ سبب ذلك يعود لقدراتكم ومسلككم الشخصي ولا يعود لطبيعة النظام الاقتصادي الذي وضعه.
2- أنّ مشكلات الناس تعود للإنفجار السكاني وزيادة المواليد، لا إلى سوء التخطيط والتوزيع.
3- محاولة إقناع الناس بأنّ نتائج التغيير سوف تكون أسوأ مما هو قائم, وتستخدم تكتيكات كثيرة منها عرض التجارب الأليمة لشعوب أخرى مع أنّها تعيش في ظروف مغايرة.
4- الحيلولة دون تقييم الناس لأوضاعهم وأحوالهم.
* لقد كان يسعى ليصير كل فرد في الأمة ملكا لنفسه تماما ومملوكا لقومه تماما, فيجتهد كل فرد أن ينال حياة رضية، حياة قوم كل منهم سلطان مستقل في شؤونه لا يحكمه غير الدين، وشريك أمين لقومه يقاسمهم ويقاسمونه الشقاء والهناء.
وأن يكون أمينا على الحرية وسلطان الأمة أمينا على مزية المساواة، وكأنّما يساوي جميع أفرادها منزلة وشرفا، ولا يفضّل على أحد ولا يفضل عليه أحد إلاّ بسلطان الفضيلة, وأن يكون أمينا على العدل أمينا على المال العام وثروة الأمة.
وأختم من فلسفته قوله، الذي يستحق التوقف مليا: كل أمر يحصل بقوة قليلة في زمن طويل يكون أحكم مما إذا حصل بمزيد قوة في زمن قصير.
حديث الكواكبي رحمه الله في طبائع الاستبداد وأم القرى شامل وواسع وصادق، ولا يتّسع المجال لأكثر مما ذكرت وأعلم أنّه هاجم السلطان عبد الحميد الثاني، وكان يحرّض الناس علنا على الخروج على الدولة العثمانية، لكنه كان ينشد الحرية لشعبه، وإن كان ما جرى استقدام مستعمر عدو استراتيجي للأمة بدلا من مستبد.
لست في صدد الحديث عن الكواكبي، ولكنه الثائر الغيور المضحي الذي قال شعرا:
قالوا حبست قلت ليس بضائري حبسي وأيّ مهند لا يغمد؟
والحبس ما لم تغشه لدنية شنعاء, نِعم المنزل المتودد
رحم الله الكواكبي الثائر، وبعد مئة عام أو تزيد وجدت صيحات المصلحين من أمثاله وممن تفوّق عليه، طريقها اليوم في العالم العربي مستفيدة من كل ما سبق من تضحيات الآباء والأجداد، ولن تتوقّف حتى تبلغ مداها بإذن الله.
(السبيل )