خريطة المواقف الإقليمية والدولية من سوريا: الطبعة الأخيرة

المدينة نيوز - تتكشف المواقف الإقليمية والدولية حيال الأزمة السورية في تطوراتها الأخيرة، عن جملة مفارقات تستدعي التوقف، منها على سبيل المثال لا الحصر: أن دولاً أوروبية وغربية عموماً، بدأت تلحظ تغييراً ملموساً في “نبرة المواقف الروسية بعد انتخاب بوتين لولاية ثالثة، كل من تلتقيه من الدبلوماسيين الغربيين، يحدثك عن الأمر، وبلغة أقرب للتساؤل والاستفتسار منها إلى “اليقين”، وثمة رهان على أن يُبنى على الشيء مقتضاه، وأن تدخل روسيا المنتظم الدولي حيال سوريا، من بوابة “الشريك” لا “الشريك المخالف” كما يقال في المثل الشعبي الدارج.
في المقابل، استوقفني موقف لمسؤول روسي رفيع صدر قبل بضعة أيام، عبّر بدوره عن اعتقاده، بأن تغييراً في “نبرة” العواصم الغربية حيال الأزمة السورية قد طرأ مؤخراً، وأن كثيرا منها بدأ يقترب من القراءة الروسية للأزمة السورية، والرجل بدوره يريد أن يبني على الشيء مقتضاه، وأن يرى الأسرة الدولية وقد قاربت الملف السوري من بوابة دعم الحوار و”عدم الإنحياز” والبحث عن حلول سياسية، أي من البوابة الروسية.
كلا القراءتين تنطوي على قدر كبير من الصحة والوجاهة...روسيا تميل لانتقاد الأسد بقسوة وعلناً وبصورة غير مسبوقة، لتلكؤه بالوفاء بالتزاماته الإصلاحية...روسيا طلبت إلى الأسد مراراً وتكراراً في الآونة الأخيرة، بأن “يُخرس المدافع” ويسحب الجيش ويجنح للتسويات والحلول والانفتاح على خصومه...فيما الغرب، معظم الغرب على أقل تقدير، الذي وضع ثقته بمهمة كوفي عنان، يميل للأخذ بنظرية التسويات، واجتياز “الهاوية” بقفزتين أو ثلاث قفزات، بعد أن تبين له صعوبة اجتيازها بقفزة واحدة: إسقاط النظام.
المشهد العربي بدوره لا يخلو من المفارقات....معظم الدول العربية تخشى التدخل العسكري الخارجي والعسكرة والتسلح...معظمها يريد “حل سياسياً تفاوضياً” للأزمة...وباستثناء قطر، وبدرجة أقل قليلاً السعودية، فإن الجميع يلتقي حول مهمة كوفي عنان، بما هي عنوان للحل السياسي المُرتجى، وليس الحسم الأمني والعسكري الذي تدعو إليه كل من الرياض والدوحة بشكل خاص، مدعومة بموقف تركي آخذ في التصاعد والتصعيد، وحماس فرنسي، يتخطى حدود الحماسة الأوروبية.
مجلس التعاون الخليجي، يبدو منقسماً على نفسه حيال الأزمة السورية: عُمان “تُساير” المواقف الخليجية، بيد أنها تتخذ موقفاً مستقلاً تماماً عن هذا الإطار...وثمة مؤشرات عديدة دالّة على تحوّل في مواقف دولة الإمارات العربية المتحدة، ليس هنا مجال ذكرها أو التوسع في الحديث عنها، ولكنها ربما تكون محكومة بدوافع الخوف من تمدد الإخوان المسلمين الذين تشتبك معهم ومع مرشدهم الروحي هذه الأيام...البحرين التي من المفترض أن تكون “مُمتنة” لمواقف النظام السوري المؤيدة لدخول قوات درع الجزيرة العربية إلى أراضيها لقمع انتفاضة الشعب البحريني، لا تستطيع أن “تنهى عن خلق وتأتي بمثله”، وإن كانت لا تستطيع أن تبتعد كثيراً عن الموقف السعودي تحديداً...الكويت “المُمتنة” أيضاً، أو هكذا يُفترض أن يكون، لإسهام النظام الأسدي في تحالف “حفر الباطن” لا يمكنها أن تتجاهل مشاعر ومواقف جارين عملاقين يحيطان بها من ثلاثة أرجائها: إيران والعراق، فضلاً عن مواقف “بعض” شعبها...وحدهما السعودية وقطر تتصدران حملة التحشيد السياسي والإعلامي والعسكري والدبلوماسي ضد النظام السوري...وبالمقارنة بين موقفي الدوحة والرياض، تبدو الأولى، أكثر حماسة من الأخيرة على هذا المضمار.
على الساحة الأوروبية تجنح معظم دول الإتحاد لحلول سياسية، حتى وإن أبقت على بعض أو معظم أو حتى جميع أركان النظام القائم...ما زال لسان حال أوروبا بعد عام من الأزمة، يدعو لتغيير السياسات لا النظام، سيما بعد أن تأكدت صعوبة مهمة إسقاطه، ولاحت في الأفق بوادر سيناريوهات الفوضى والإنقسام الأهلي وتقسيم البلاد والعباد، وبشكل مرجح على سيناريو الدولة المدنية / الديمقراطية البديلة التي بشرت بها أوساط من المعارضة...وحدها فرنسا من ضمن المجموعة الأوروبية، ما زالت مواقفها بحاجة لمزيد من التوضيح، فثمة مؤشرات على الأرض تشي برغبة فرنسية بمزيد من التدخل الميداني لنصرة المعارضة، لكن في فضاء الدبلوماسية، تدعم فرنسا مبادرة كوفي عنان، وتريد أن ترفع سقوفها انسجاماً مع مواقفها المطالبة بقوة برحيل النظام أو ترحيله.
أما واشنطن، الغارقة من رأسها حتى أخمص قدميها في أوحال الحملات الانتخابية الرئاسية، فلا متسع لدى إدارتها للدخول في دهاليز في “بابا عمرو” و”إجزم” و”الرستن”...والرئيس الذي خاض الانتخابات السابقة والحالية، تحت شعار الإنسحاب من حروب بوش الكونية، لن يكون راغباً بحال من الأحوال، في شن حرب جديدة، ثالثة أو رابعة، ضد إيران أو سوريا، والمؤكد أن آخر ما تريد الاستماع إليه، هو نصائح المعارضين السوريين لها بوجوب الإسراع في إرسال حاملات الطائرات والأساطيل.
إقليمياً، تتكشف المواقف عن مفارقة لا تقل أهمية عمّا سبق ذكره من مفارقات...إيران حليف سوريا الاستراتيجي، ترفع سقف انتقادها للنظام، وتطالبه بإتخاذ إصلاحات وإطلاق مبادرات...حزب الله يطالب الأسد والمعارضة سواء بسواء، بإلقاء السلاح والذهاب إلى مائدة حوار وطني جامع، وإصلاحات حقيقية تلبي تطلع السوريين للحرية والكرامة و”المقاومة”، وهو – أي حزب الله – يبحث عن قنوات اتصال مع المعارضة السورية، ويوظف علاقاته ببعض فصائل المقاومة لهذه الغاية.
في المقابل، تبدو تركيا/ العدالة والتنمية في حيرة من أمرها...صمت الدبلوماسية التركية عدة أشهر، أو بالأحرى هدأت عدة أشهر بعد حالة من الغضب أعقبت استنكاف الأسد عن الوفاء بوعوده لأردوغان وموفديه...لكنها في الأسابيع الأخيرة، عادت للتحدث عن “الممرات الامنة” و”الخيار العسكري” العربي – الإقليمي (تُقرأ التركي)...وهي تستنهض المعارضة اليوم على أبواب مؤتمر “أصدقاء سوريا” لحث فصائلها المختلفة على رفع سقف المطالب من المؤتمر ومن عنان سواء بسواء...يبدو أن تركيا، مثل قطر، وإلى بدرجة أقل السعودية، لا تتخيّل بقاء النظام لعام أو عامين، ويبدو أنها باتت تخشى كما تلك الأطراف، أن تنتهي أية تسوية إلى بقاء الأسد على مقعده الوثير، لذا رأينا تستنفر طاقاتها وتستنهض طاقات أصدقائها من السوريين، لتمهيد الطريق أمام “أصدقاء سوريا” للخروج بنتائج أقوى من تلك التي انتهى إليها مؤتمر تونس قبل عدة أسابيع...ولقد كان من سوء طالع الشعب السوري وقواه الحية والمناضلة، أن أقدمت أنقرة على تقديم موعد انعقاد المؤتمر، مؤتمر أصدقاء سوريا، من الثاني من نيسان القادم إلى الأول منه، وسط خشية حقيقية أبداها بعض الظرفاء من أصدقائنا في المعارضة السورية من أن يصبح الحدث بمجمله بمثابة “كذبة نيسان”.
الخلاصة، أن أصدقاء النظام باتوا يرون فيه عبئاً عليهم يريدون الخلاص منه، ولكن ليس بأي طريقة...وأصدقاء المعارضة، باتوا ضجرين من نداءاتها التي تكاد تُتخزل بعبارة واحدة: التدخل العسكري....وسيجد طرفا الصراع في سوريا نفسيهما أمام وضعية قد يُجبران فيها على الجلوس إلى مائدة حوار واحدة، لكن أسئلة من نوع: متى وكيف وبأي شروط وأية نتائج؟...ستبقى أسئلة مفتوحة في المدى المرئي المباشر.
(الدستور )