حتى لا تقع ثورة مصر في الخطأ نفسه !

في التجربة الغنية, والمعقَّدة, فَهْماً ومفهوماً, لـ "الربيع العربي", وَقَفْنا على كثيرٍ من المعاني السلبية التي انطوت عليها مواقف ما يسمَّى "الأكثرية (الشعبية) الصامتة"; ففي سورية, على سبيل المثال, اتَّخَذ نظام حكمها من اعتصام فئة واسعة من الشعب ببيوتهم, أيْ عدم مشاركتهم في الحراك (الشعبي الثوري) ضدَّ نظام حكم بشار الأسد, دليلاً (ولو من النوع السلبي) على أنَّ الشعب, في غالبيته, يَقِف مع نظام الحكم هذا, وضدَّ ذاك الحراك; أمَّا في مصر, وعلى سبيل المثال أيضاً, فَخَرَجت تلك الأكثرية عن صمتها (غير الذهبي) إذ غادرت البيوت إلى صناديق الاقتراع لتدلي بأصواتها مرَّتين, مرَّة في الاستفتاء الشعبي على مواد دستورية جديدة اقترحها "المجلس العسكري الأعلى (الحاكم)", ومرَّة في الانتخابات البرلمانية.
إنَّها مساحة ديمغرافية واسعة (في المثالين السوري والمصري) لم تتلوَّن (لأسباب شتَّى ومختلفة) بألوان "الربيع العربي"; وليس هذا بالأمر المُسْتَغْرَب في تجارب وتاريخ الثورات في العالم; فـ "الشعب الثوري", الذي صنع ويصنع الثورات, إنَّما هو ذاك الجزء من الشعب الذي ينزل إلى الشوارع, ويحتشد بالميادين, ويؤدِّي (مباشَرَةً) العمل الثوري, الذي يُتوَّج (ويجب أنْ يُتوَّج) بالاستيلاء على السلطة, أيْ بإطاحة نظام الحكم القديم, والتأسيس لنظام حكم جديد, تلبَّى فيه, وبه, مطالب الثورة.
تلك "اللحظة الثورية الحاسمة" هي التي لم يَعْرِفها زمن ثورة 25 يناير المصرية; فالمؤسسة العسكرية المصرية, وعَبْر "المجلس العسكري الأعلى", عَرَفَت كيف تَحُول بين "ميدان التحرير" وبين وصوله, أو وصوله بالثورة, إلى تلك اللحظة.
كان الثوار قاب قوسن أو أدنى من "اللحظة الثورية الحاسمة", وكان "الميدان (قلب الثورة النابض)" يعود, في ملكيته السياسية والفكرية, لشبابٍ لهم من الحوافز والدوافع الثورية, ومن الرؤى والشعارات والمطالب, ما جَعَل الهوَّة بين الثورة (أيْ ثورتهم) وبين "النتائج", التي تمخَّض عنها "الاستفتاء", والانتخابات البرلمانية من ثمَّ, من الاتِّساع والعمق بمكان.
ولكم أنْ تتخيَّلوا التغيير (حجماً ونوعاً) الذي كان سيَقَع لو أنَّ "المجلس العسكري الأعلى" قد انتصر, بعد عزله الدكتاتور حسني مبارك, لمطالب وشعارات صُنَّاع الثورة الحقيقيين في "ميدان التحرير", من طريق تأليفه لجنة, أو هيئة, من رجال وخبراء القانون الدستوري, تَكْتُب دستوراً جديداً للبلاد, تُسْتوفى فيه الشروط والمبادئ والمفاهيم الديمقراطية (العالمية) لـ "الدولة المدنية"; ثمَّ يُدْعى الشعب, مع أكثريته الصامتة, إلى استفتاء شعبي لإقرار هذا الدستور الجديد.
لو فَعَلَها هذا "المجلس", مُغْتَنِماً تلك "اللحظة الثورية الحاسمة", والتي هي لحظة "الشرعية الثورية", أو لو كانت له مصلحة في فِعْلِها, لَمَا كان من سببٍ يدعو إلى افتراض, أو توقُّع, ألاَّ يُصوِّت الشعب نفسه, ومع أكثريته الصامتة نفسها, لمصلحة إقرار هذا الدستور, الذي سيؤسِّس لـ "الدولة المدنية (الديمقراطية)".
إنَّه لم يَفْعَلَها; لأنَّ له, ولـ "المؤسَّسة العسكرية" التي يمثِّل ويقود, مصلحة في أنْ يظلَّ محتفظاً بنفوذ سياسي, هو من الحجم والنوعية ما يَجْعَل "الدولة المدنية" فاقِدةً لكثيرٍ من معانيها ومقوِّماتها.
وعملاً بهذه المصلحة الفئوية الضيِّقة, واستخذاءً لها, شرع "المجلس العسكري الأعلى" يمدُّ جسور التعاون والتحالف مع قوى "الإسلام السياسي", وفي مقدَّمها جماعة "الإخوان المسلمين", فكانت العاقبة (التي رأيناها تَخْرُج من رحم انتخابات "مجلس الشعب") أنْ مُسِخَت وشُوِّهَت أكثر "الدولة المدنية", مفهوماً وواقعاً; فكيف لهذه الدولة أنْ تصبح حقيقة واقعة إذا ما تقاسَم السيطرة (الفعلية) عليها "العسكر" و"الإسلام السياسي", وعلى ما بين الطرفين من تناقض, أو نزاع, يستتر تارةً, ويَظْهَر طوراً?!
إنَّ مؤسَّسة (العسكر) هي الأهم بين مؤسَّسات نظام الحكم القديم تتعاون وتتحالف مع قوى حزبية لم تكن لها مساهمة يُعْتَدُّ بها في إطلاق وتفجير الثورة, في سبيل منع مطالب وشعارات "ميدان التحرير" من أنْ تُتَرْجَم بنظام حكم جديد, تُسْتَوْفى فيه, وبه, "الدولة المدنية (الديمقراطية)".
وللمتوفِّرين على المقارنة بين "الإسلام السياسي" التركي و"الإسلام السياسي" المصري, أقول شتَّان ما بين التجربتين, أو المثالين, أو النموذجين; فحزب أردوغان جاء إلى الحكم في دولةٍ عَرَفَت, في أساسها وتاريخها, كثيراً من المعاني والمقوِّمات الدستورية لـ "الدولة المدنية"; أمَّا في مصر فلن تَعْرِف الدولة الجديدة من هذه المعاني والمقوِّمات إلاَّ ما لا يَجِدَ له صَدَّاً في فكر "الإسلاميين" المهيمنين على البرلمان, وعلى الهيئة التي ستتولَّى وضع دستور جديد للبلاد.
ودرءاً للالتباس وسوء الفهم, أقول لا اعتراض على فوز "الإسلاميين" في الانتخابات البرلمانية, ولا على هيمنتهم على السلطتين التشريعية والتنفيذية; فالاعتراض, كل الاعتراض, إنَّما هو على أنْ يأتي ذاك الفوز, وهذه الهيمنة, قبل "التأسيس الدستوري" لـ "الدولة المدنية"; فـ "الدولة المدنية" تُقام دستورياً أوَّلاً; ثمَّ يُنْتَخب مَنْ يُنْتَخَب, ويفوز مَنْ يفوز, ويَحْكُم مَنْ يَحْكُم. (العرب اليوم)