صمت بسعر الماس!!

هل يأتي وقت يصبح فيه ثمن دقيقة الصمت أكثر من قنطار ذهب؟. فهذه النعمة التي أتاحت للانسان أن يتأمل ويتعبد ويصغي الى ايقاعات الكون أصبحت مهددة أكثر من الاكسجين والأوزون والأخلاق. فما أن نصحو من النوم الذي لا تنقطع خلاله الأصوات حتى من خلال الكوابيس وما ترسب من أصداء النهار حتى يحاصرنا هذا التلوث السمعي الذي تحالف مع التلوث البصري وفساد الهواء في ثالوث شيطاني لا سبيل الى تفاديه.
رنّات من مختلف السلالات عبر الموبايل الذي اصبح يداً ثالثة للانسان وأحياناً أصبعاً سادسة في اليد ذاتها، وأبواق سيارات وأصوات انذارات، وعربات اسعاف وعربات غاز تنبعث منها أصوات يقال أنها موسيقى وهي تنافس رائحة الغاز على الخنق والغثيان.. وأحياناً نسمع أغنيات يفيض صوتها عن ساحة السيارات فتندلع من النوافذ، وتشتبك لتكون صخباً مُبهماً أو مجرد سبب مجاني للصداع. وهناك لحظات يضيق فيها الانسان بالصوت حتى لو كان منبعاً من العصافير، لهذا يقال أن الشاعر الأمريكي غنزبرغ كان لا يكف عن شتمها عندما يود النوم تحت شجرة في حديقة، وكان الشاعر الداغستاني الآسر حمزاتوف قد قال أنه تعلم النطق في سن الثانية، واحتاج الى سبعين عاماً كي يتعلم الصمت. وهناك فنان كان يعشق الحياة ويخشى من فراقها، لكنه بسبب ما تراكم لديه من نعاس وبسبب الضجيج تمنى الموت كي ينام باستغراق ويتاح له أن يستمتع بالصمت.
ما من زمن كهذا اندلعت فيه الاصوات كلها من مختلف الحناجر والجحور، وأصبح الصمت غالي الكلفة، فلكي نحصل على قليل منه يجب أن نذهب الى مكان ما خارج الأرض، فنوافذ بيوتنا ليست محكمة لهذا تتسلل منها الأصوات كلها بلا مصدات وثمة أصوات تحتاج الى مصدات كتلك التي تحمي من الصواعق.
والصمت الصافي أمنية يتعذر تحقيقها، وحين حاول أحد العلماء أن يعزل غرفته بالإسبست ويحجب عنها كل أصوات العالم فوجىء بأنه يسمع دقات قلبه ودورته الدموية وحركة أحشائه.
وحين يذهب المرء الى مقهى كي يكسر رتابة يومه يفسد الطنين حتى قوته ويضيف اليها رذاذاً بالغ المرارة. ولا أدري لماذا يتحدث الناس حتى في المقاهي والمطاعم بهذا الصوت الجهوري كما لو أن المسافة بينهم عشرات الأمتار، حتى الحديث بالهاتف النقال أصابته عدوى الهاتف الأرضي الذي كان الناس يضطرون لرفع اصواتهم عبره في المكالمات الخارجية، تماماً كما انتقلت عدوى المحطات التلفزيونية الارضية الى الفضائية وكأن شيئاً لم يكن.
فنحن نعيد انتاج القديم ولا شيء آخر، لنكتشف أن القديم الحقيقي قد غاب وان بديله الحديث لم يأت، لهذا نصبح كالمُنبتّ الذي لا قديما أبقى ولا حديثاً قطع!.
ان من أصبحوا يشترون الماء حتى في لحظات انهمار المطر، ومن يشترون الاكسجين كي يستطيعوا التنفس في مناخات مشبعة بالثرثرة والاكاسيد سيشترون ذات يوم الصمت، لكنه سيكون أغلى ثمناً من الماء والهواء.. وقد ينافس الماس في سعره الباهظ.
(الدستور)