لا تبعثوا برسائلكم...

في معرضه (أُنشودة المطر) لوحات الشمري تحمل حزن السياب وغضبه.
حين كتبت قبل عدة سنوات حول معرضه الذي أقيم آنذاك في دار الأندى طالبت محبي الفنان العراقي محمد الشمري ان لا يبعثوا برسائلهم الى الفنان على عنوانه في الأعظمية ببغداد فقد احترق البريد واحترقت كل الرسائل واختطفت أيدي الغزاة ما تبقى من البطاقات البريدية, حتى مفاتيح ارض بغداد أكلتها نيران الحقد. وقلت ان الفنان يرجوكم ان تؤجلوا إرسال بطاقات المعايدة الى ما بعد التحرير.
في أعماله تلك اخبرنا الشمري ان لا شيء بقي من بغداد ورسائلها المفعمة بحضارة الرافدين سوى خوذات وحراب الجنود المأجورين لتحرير العراق.. هؤلاء الذين وصلوا الى بلاد السومريين وللأشوريين امتداد لجيش هولاكو الذي احرق كل كتاب في بغداد وكل معلم حضاري في محاولة بائسة وخائبة لطمس هوية هذا البلد العريق.
يومها قال لي: لو وزعت الأحداث التي مرت على العراق خلال عدة أشهر على مئة قرن لأحس بان الظلم أكثر مما يحتمل.
واليوم.. وبعد خروج الاحتلال, بقيت لوحاته التي تعرض حاليا في دار المشرق, حزينة غاضبة, تحمل ذات القلق وتعبر بألوانها وتفاصيلها واختلاجات روح الفنان فيها عن الخوف على العراق وضياع العراقيين والقلق على مستقبل بلاد الرافدين ارض الحضارات القديمة التي فقدت عنوان حاضرها.
لوحاته التي جاءت بأحجام وأشكال متنوعة جسد فيها الشمري مأساة بغداد وكل المدن العراقية بألوان حزينة أو كما يسميها لون الزمن والعدم.
لوحات الشمري الذي يقول: أنا بتركيبتي أممي.. أحب بغداد والقاهرة وكل العواصم العربية ليس بمفهوم سياحي وإنما بمفهوم الأسطورة ما زالت مساحات لألوان جريئة متداخلة بحذر ريشي يعبر عن ثقة عالية في اختيار اللون ومعناه, حتى ان المشاهد يحس بحجم الحزن الممزوج بالعنف والغضب والرفض والقهر الكامن في أعماق الفنان وهي المشاعر التي ينقلها إلينا عبر مساحات حمراء وبرتقالية اقرب إلى لون البركان.
قبل ان أشاهد لوحات الفنان الشمري كنت اتساءل: لماذا اطلق على لوحاته انشودة المطر ?!
وعندما شاهدتها ادركت ان الشمري مسكون بحزن وقلق, فلوحاته مشكلة بمزيج من الأسود والأبيض والأحمر وهي تحمل لون المطر الذي ينهمر على ارض السواد وكذلك الصلصال الدامي من طيف وتراب وماء اوروك الذي صهرته نار الحيرة والقلق عند جلجامش.
في معرضه الجديد انشودة المطر, بلغ الشمري قمة تجلياته في انصهار الطين والنار والمطر وهي عناصر الحياة في نشأتها الاسطورية, فاقتربت بذلك من حالة الشعر في غنائية لونية تجاوزت حدود الانطباعية إلى مرحلة التشكيل الرمزي الحر الذي يظهر ما في اعماق الوعي الخاص والرؤية الذاتية.
ففي الوهلة الاولى تبدو سهلة بسيطة لكنها تغرق في قراءة بصرية تعطيه حقه وتنصفه في حالته الجديدة التي تكشف صعوبة التشكيل في حالة الشعر وخطورته.
الشمري وجد عناوين لوحاته في قصائد السياب الذي يحمل حالة عراقية رافضة حزينة غاضبة ولكنه لم يجد عنوانه الآن في عراق مضطرب حزين... لذلك أقول لكم مرة أخرى لا تبعثوا برسائلكم إلى الشمري فما زال صندوق بريده في الاعظمية محترقا.. ( العرب اليوم )