أردني حتى النخاع

أغتنم فرصة الانتظار في مكان عام لأتفرس بوجوه الناس وأقرأ ملامحهم، هذا ما تعلمته من خبرتي بفن كتابة القصة القصيرة، وهي الخبرة التي تجعلني أحس بأن في داخلي كاميرا ذكية ومتطورة جدا قادرة على قراءة الأعماق بلقطات أسرع من الضوء واختزانها إلى أن تتبلور بمشاهد قصصية متراكمة.. هذا ما علمني إياه فن القصة القصيرة.
أجلس الآن بقاعة مكيفة معدة للانتظار، كل ما فيها يوحي بالهدوء والراحة، أجد أمامي أحد المواطنين «لاحظوا أن عددهم أصبح موازيا لعدد الوافدين» وأحس بأنه قريب مني،العيون المحمرة وتقطيبة الجبين، وأخمن أنه غاضب لأن فوق رأسه عبارة كبيرة مكتوبة بخط جميل تقول: «ممنوع التدخين..!»، ألاحظ أنه يتحسس جيبه ويطمئن إلى وجود باكيت الدخان، أراقبه وأخاف أن يكتشف أنني أتابعه، يخرج يده من جيبه، ويسوي عقاله بحركة قلقة، وأخمن مرة أخرى أنه غير مرتاح لأنه ينتظر مع كل المنتظرين، وأستطيع أن أقرأ أفكاره الأردنية الصميمة، والتي تؤكد على احتجاجه بسبب عدم وجود «واسطة» تجعله يكسر حدود الانتظار..!.
يتحسس جيبه ويخرج الولاعة، يعيدها إلى جيبه ويقول بصوت مرتفع:
- لا حول ولا قوة إلا بالله..!.
تتطلع إليه كل العيون المنشغلة بالنظر إلى اللوحات الفنية التي يبدو أنه تم اختيارها بعناية، ويعدل المواطن من وضع غطاء راسه للمرة الخامسة، وفي اللحظة التي تعود يده إلى وضعها العادي يرن هاتفه الخلوي، يخرج الجهاز بسرعة البرق، ويترك لصوته حرية الارتفاع حتى «السقف» نسمع صوته يقول بنرة أردنية حادة:
- ها شو في..؟.
نفهم بأن الرجل يرد على هاتف الزوجة، ويختم المكالمة بسرعة البرق وهو يقطب جبينه مؤكدا بأنه سيحضر معه الخبز وأنه ما زال ينتظر دوره.. يعيد الهاتف إلى موقعه، ويتأفف!.
يرن هاتف جاره، أسمع نبرته اللطيفة وصوته المنخفض يرد على الهاتف، أعرف أنه «وافد» وأحس بأن حديثه أيضا مع زوجته، يقول بصوت منخفض:
- حاضر حياتي شو أجيب غير الخبز والجبنة؟.
-....
- الله يسلملي هل صوت وما يحرمني منه..!.
يتطلع الأردني الذي ما زال يتفقد جيبه ويقبض على الولاعة نحو الجار الذي أغلق هاتفه، أراقب التقطيبة الطيبة التي تملأ جبينه، وأقرأ ما يدور برأسه من أفكار، أعرف بأنه غير راض عن «رقة» جاره مع زوجته.. وأعرف أيضا أنه طيب جدا وأن احمرار العيون والتقطيبة التي لا تفارقه والصوت المرتفع كلها حميمة جدا، وأن الدخان والواسطة والأمراض المزمنة تعشش في دمه، وأنه طيب وطيب حتى النخاع..!.
- هل تعرفون كيف قرأت أفكار الأردني وهو يتفحص جاره..؟.
(جحره) بطريقة أردنية وهو يعدل العقال..! وعندها تذكرت المعارك و»أم المعارك» التي تقوم في حرم الجامعات بسبب قيام طالب بجحر طالب آخر، وعرفت عندها معنى «الجحرة» التي تضاف إلى رصيد الأردني صاحب السيجارة وتقطيبة الجبين وصاحب أطيب قلب بالعالم كله، وأكرم أبناء الشعوب قاطبة، ولكم أن تتصوروه في بيته وهو يشد المعازيم على سدر المنسف، لتعرفوا كم هو طيب وأصيل..!.