هاجس الفناء والاندثار

تم نشره الأربعاء 18 نيسان / أبريل 2012 03:37 مساءً
هاجس الفناء والاندثار
سعود قبيلات

قرأ الأديب الأردنيّ الراحل غالب هلسا, في أواخر سنيّ حياته, عندما كان مقيماً في دمشق, مادَّة علميَّة تقول إنَّ هذا الكون العظيم, الذي نعيش فيه, سينتهي عمره بعد حوالي سبعين مليار سنة. بعدئذٍ, اكتأب غالب, وانطوى على نفسه ما يقارب الثلاثة أشهر; وكان أشدُّ ما يؤلمه هو أنَّ الأعمال الفنيَّة والأدبيَّة والفكريَّة العظيمة ستندثر مع هذا الكون الفاني. ولم يكن يريد أنْ يصدِّق أنَّ أعمال دستويفسكي وتشيخوف وتولستوي وابن المقفّع والجاحظ وفوكنر وبتهوفن وتشايكوفسكي وموزارت.. الخ ستذهب هباءً.

ورأى نجيب محفوظ, في مقابلةٍ قديمة معه, أنَّ فكرة خلود الأعمال الأدبيَّة والفنيَّة لا معنى لها في الحقيقة; فمع مرور السنين, وكثرة الإنتاج الفنيّ والأدبيّ المتراكم, يذهب طيّ النسيان, والعدم تقريباً, معظم الأدباء والفنَّانين وإنتاجهم.

وهاجس الفناء, هاجس عامّ لدى كلّ الناس, لكنَّه أكثر حدَّة لدى منتجي الفنّ والأدب. ويرتبط بهذا, في الكثير من الأحيان, الشعور باللاجدوى واللامعنى والعبث.. الخ. وقد يكون هذا الشعور منبثقاً, أحياناً, مِنْ أسباب أبسط مِنْ هذه التي سردناها, بكثير. كشعور الفنَّان والكاتب بعجزه عن التأثير في الواقع السياسيّ والاجتماعيّ المهيمن حوله. وبرأيي, أنَّ هذا غير دقيق; فأكبر دليل على قوَّة تأثير الأعمال الأدبيَّة والفنيَّة والفكريَّة الجادَّة هو تعرّض أصحابها للاضطهاد, غالباً, من الطغاة والمستبدّين والمستعمرين.

ولكن, ما لم يفكِّر فيه غالب هلسا ونجيب محفوظ وكثيرون سواهما هو أنَّ خطراً آخر داهماً, ليس كونيّاً, ولا علاقة له بالهواجس الوجوديَّة البعيدة, بل هو أرضيٌّ تماماً ومحدود الأفكار والنظرات, سينبثق في بدايات القرن الواحد والعشرين في البلاد العربيَّة, ليستهدف ألوان الفن والأدب والثقافة والفكر, كلّها, والحضارة عموما.

لقد مرَّ في التاريخ طغاة كثيرون استهدفوا بعض ألوان الأدب والفنّ والفكر والثقافة.. لكنَّنا نواجه, للمرَّة الأولى, وضعاً تصبح فيه الثقافة والفنّ والفكر والأدب, كلّها, ومعها كلّ أشكال السلوك الإنسانيّ الراقيّ, مستهدفةً, بجذورها وفروعها وامتداداتها. إنَّه تهديدٌ جديّ بنشر القحط والتصحّر في أعمق أعماق روح الإنسان العربيّ. ما يجعل وصف سمير أمين لهذا الارتداد الحضاريّ العربيّ الواسع بأنَّه نوعٌ من الانتحار لأمَّة بكاملها, صحيحاً تماماً.

لقد حارب هتلر أنماطاً عديدة من الفنّ والأدب والثقافة والأفكار ذات التوجّه التقدّميّ الحداثيّ, ولكن, في المقابل, كان يصطفّ في إطار مشروعه, ذاك, بعضٌ مِنْ أهمّ الأدباء والفنّانين: عزرا باوند, على سبيل المثال, وفاغنر.. الخ; كما أنَّه, هو نفسه, كان رسّاماً.. حتَّى إنْ كان فاشلاً.

أمَّا في حالتنا الارتداديَّة العربيَّة, فليس الفنّ والأدب والفكر الحديث, هي وحدها المحارَبة, والتي يطلب المتطرفون, بألوانهم المختلفة, حظرها, بل, أيضاً, أهمّ ما أنتجتْ الحضارة العربيَّة الإسلاميَّة, في عصور نهضتها وازدهارها, من ألوان التراث الثقافيّ الإنسانيّ. كي أوضّح المسألة عيانيّاً, أقدّم بعض النماذج التي لا تحظى بقبول هؤلاء: ألف ليلة وليلة, والأغاني لأبي الفرج الأصفهاني, والأدب الجنسيّ بعمومه, مع أنَّه مِنْ تأليف رجال دين كبار, أمثال السيوطيّ والتيفاشي, وابن قتيبة الدينوريّ, خصوصاً في الإمامة والسياسة, وابن رشد, والكندي, والفارابي, والمعتزلة ومنهم أعظم خليفة عربيّ إسلاميّ هو المأمون, والقرامطة, والحلّاج, وابن المقفّع, والجاحظ, وإخوان الصفاء, والصوفيَّة ومنها ابن عربيّ وجلال الدين السيوطيّ.. الخ. والأمثلة أكثر مِنْ أنْ تُحصى. ونضيف, أيضاً, الدين, نفسه, الذي يريدون نزع صورته الحضاريَّة المتقدِّمة, التي تعايشت مع كلّ هذه الألوان من الإبداع الإنسانيّ الراقيّ, ليتحوَّل إلى مجرَّد نظام متخلِّف لعلاقات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

فما الذي يتبقّى, إذاً, مِنْ ثقافة الأمَّة وهويَّتها وتراثها العظيم ومساهمتها الحضاريَّة الراقية?. _ العرب اليوم _



مواضيع ساخنة اخرى
الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية
" الصحة " :  97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم " الصحة " : 97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم
الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع
3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار 3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار
الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن
العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا
" الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار " الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار
العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا
الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي
بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان
عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي
إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن
تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام
ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي
الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة
الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات