العلماء ماسحو الجوخ .

ماسحو الجوخ أو الكلمة التركية (الجوخة دار) مصطلح كان يطلق على الشخص الذي يقوم على خدمة السلطان في إعداد وتنظيف وتلبيس الأحذية، ثم توسَّع المعنى وشمل من يقومون بإسدال الستائر وفتحها في السراي وقصور الوزراء، ولمّا كانوا يلبسون الجوخ فقد أطلق عليهم الاسم مشتقا ممّا يلبسون، ويعرفون أيضا بماسحي أحذية السلطان أو تنابلة السلطان أو الأشعبيين أو المطبلاتية أو هزيزي الذنب بالتعبير الدارج، ومعناه أن يكون الشخص منافقا مع من له مصلحة معينة ويوافقه الرأي في كل ما يقول ويدافع عنه إذا لزم الأمر.
وقد نفهم أن يمتهن كثير من الناس هذه المهنة الوضيعة طواعية، ولكن أن يمتهنها العلماء وعلماء الدين خصوصا، الذين يرشدون الناس إلى الله ورسوله فهذه سقطة يُخشى أن لا يكون بعدها رفعة، فشاهد الزور لا تقبل شهادته حتى وإن تاب، فالدين وعلومه يحرران الإنسان من سطوة الدنيا وأسيادها ومتاعها فلا يكون على النفس سلطان إلاّ سلطان الله ولا خوف إلاّ منه ولا إقبال إلاّ عليه، ومن عمل وتخلّق بغير ذلك لم يستحق لقب عالم جُعلت منزلته بمنزلة الوراثة في التبليغ عن الأنبياء.
وللأسف فإنّ العلماء ماسحي الجوخ موجودون في تاريخنا وهم أكثر في حاضرنا ويمثّلون فئة اشترت بعلمها عرضا من الدنيا وباعت دينها بدنياها، فخسرت الدنيا والآخرة يوم وضعت علمها في خدمة السلطان وأسبغت على أعماله صفة القبول والشرعية فكذبت على الله وعلى عباد الله فانطبق عليها قوله سبحانه "ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا".
ولعل سوءة العالم ليست كسوءة غيره لأنه متَّبع وكلمته مسموعة وفعله يقتدى به، ولذا فإنّ وزره أكبر يوم القيامة، ولذا قال صلى الله عليه وسلم "أشد الناس ندامة عند الموت العلماء المفرطون" الذين يفرّطون بدماء المسلمين وأعراضهم وأموالهم ومقدساتهم ثم لا يستحون أن يمشوا في ركاب السلطان بحجة أنّه لم يُظهِر بكفر بواح! وأيّ كفر أكبر من إراقة الدماء وسلب الأموال واستحياء الأعراض والمقدسات، لقد أصبح فرعون بمثل هذه الأعمال قائدا في النار "يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار"، وهو موئل كل من سار على نهجه وبرر أعمال الشياطين في عباد الله المؤمنين.
وتزداد فداحة السقطة إذا كان للعالم صفة اعتبارية ومنزلة دينية في الفتوى، فهو ليس فردا يمثّل نفسه حتى يكون لأفعاله صفة المسؤولية الشخصية، وإنّما يمثّل أمة وإجماعها وخروجه عنها خروج عن إجماع الأمة لا يصح بعدها الرجوع إلى منصب القيادة.
ولعل زيارات القدس الأخيرة تحت حراب الاحتلال التي قام بها بعض من يسمون بالعلماء لا تفهم إلاّ ضمن هذا الإطار، فقد كان أولى بمن يريد أن يزور القدس أن يحررها إن كان صاحب همة وعزيمة وأن يدخلها مجاهدا فاتحا لا سائحا متنزّها، فالصلاة التي فرضت علينا في رحلة الإسراء والمعراج من فوق سماء الأقصى ركن وشعيرة، والجهاد كذلك ركن وشعيرة وسنام الإسلام، ولا يكفي أن نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض، فهذه مدينة مقدّسة قدسيتها من الله القدوس، والقدوس تعني الطهارة من الأنجاس والأدناس والترفُّع عن الصغائر، ومن أراد أن يدخلها آمنا مقبولا فعليه أن يتخلّق بأخلاقها.
أيّها العلماء إنّ في قلوبنا نارا وشوقا لصلاة في المسجد الأقصى لو وزّع على أهل الأرض لأحرقهم، ولكننا لا نفعل إلاّ ما يرضي الله وما أجمع عليه علماء المسلمين، ومن شذّ عنهم فإنّما يشذّ في النار.
دخول الأقصى والقدس له آداب سطرها لنا عمر الفاروق وصلاح الدين الأيوبي، فالقدس لا تقبل إلاّ رافعي الرؤوس، أمّا من دخل من الطرق الجانبية وجهل إرادة الله ولم يستقم على أمره ونهج عباده ممّن رضي عنهم ورضوا عنه فقد تُحرّم عليه ويقضي حياته في تيه كما قضى بنو إسرائيل.
لم يقبل الإمام أحمد من صديق عمره يوم ورّى في قضية خلق القرآن لينجو من العذاب وقال له "يا ضيعة العلم بفعلتك، يا خسارة العمر بصحبتك"، فكيف بمن لم يورِ ولم يدارِ سوءته، بل اقترفها جهارا نهارا على رؤوس الأشهاد؟!
لا نجد أبلغ من قول أم أبي عبد الله الصغير لنقتبس منه ونقول: سيروا خائفين فوق أرض محتلة لم تحرروها مثل الرجال.
وصدق من قال: سقطة العالِم سقطة العالم، غير أنّ القدس لن تسقط بإذن الله وستسقط مخططات وكيد الأعداء، هكذا الوعد وهكذا يكون الإعداد له "فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا".
(السبيل)