الفقر كمطلب قومي!

عندما حاولت النظم السياسية العربية أو بعضها على الأقل إعطاء دلالات لشعار الاشتراكية لجأت الى فلسفة الانتقاء، وتجاسر البعض على تسمية الكائن الهجين بالاشتراكية العربية، ثم انتهى الأمر الى القطاع العام الذي عُرِضَ بعد عقود في المزاد فلم يحدث نمو رأسمالي بالمعنى الكلاسيكي، ولم يتمتع فقراء العرب بالاشتراكية بحيث يتعلمون ويعالجون ويعيشون في مساكن آدمية، لكن ما حدث هو أن العشوائية سواء بمعناها الفكري او المعماري زحفت على العواصم وقضمتها، وحولت أحياء كاملة منها تعج بالبشر إلى حاويات عملاقة للنفايات.
ولا أدري لماذا فـُهـِمَ هذا النمط من الاشتراكية بشكل معكوس، وتصور البعض ان الفقر يجب أن يصبح مطلبا وطنيا وقوميا. لهذا اذكر عندما كنا في سنوات الدراسة وبالتحديد في القاهرة التي كانت تجتذب عشرات الألوف من الطلاب العرب في الحقبة الناصرية، كان بيننا من يطالبوننا بالاعتذار إذا ارتدينا ثيابا نظيفة وأنيقة ونوصف بالبرجوازيين الصغار العفنين رغم ان العفن كان في مكان آخر وفي الفهم الخاطئ للاشتراكية والثقافة وكل ما له صله بالحياة. وكانت الطبقة الوسطى قبل ان تبدأ بالتحلل والتلاشي هي حاضنة كل تلك التجارب الاقتصادية لكنها سرعان ما وقعت في فخين، أولهما الخوف من الفقر وبالتالي الانحدار الى القاع مما أفرز فوبيا الفقر وهي أنكى وأشد من أي فقر، وثانيهما التطلع الى الأعلى. ولأن التجارب الاقتصادية التي جازف بها جنرالات وانقلابيون كانت تتخبط بين تسيير ذاتي وتحديث لأنماط الانتاج الاسيوية فقد بدأ ما يسمى التسلل الطبقي. وساعد على ذلك انفتاح أسواق عمل جديدة. فقد يتسلل طبقيا من كان بالأمس بائعا متجولا لكنه ما إن يصل الى مبتغاه حتى يبقى محتفظا بكل ثقافته الطبقية القديمة وطقوسها أيضا، لهذا تم اجهاض فئات اجتماعية كان منوطا بها اذا تذكرنا المثال الاوروبي ان تكون ذات انجازات مدنية، وفنية اضافة الى اجتراح آفاق جديدة لحداثة تم وأدها في الرحم وليس المهد فقط.
إن ما أثار لدي هذه التداعيات هو قصة مؤجلة عدة سنوات، وهي أنني أصدرت سيرة ذاتية في عمان ثم في القاهرة تحدثت فيها عن طفولتي، وفوجئت بناقد يسألني:
هل هذه هي بالفعل طفولتك أم أنها متخيلة فقلت له إنها طفولتي وكما هي وإن كنت قد خجلت من رواية بعض التفاصيل التي تستفز أبناء جيلي ممن ولدوا بعد الحرب العالمية الثانية وبالتحديد مع النكبة في فلسطين، ثم بدأ يروي لي باقتضاب وعصبية طفولته وانتهى الأمر الى أن قال لي بأن هذا الكتاب هو اسوأ ما قرأ في حياته، وقد كرهه ثم أدت هذه الكراهية لأن يصبح صاحب الكتاب عدوا الى الأبد. وبعد تلك الحادثة شعرت بأن هناك من أساؤوا الى طفولتنا وشعبنا سواء بالكتابة أو الرسم او حتى الذكريات وكأننا لم نكن أصحاب أرض وبيوت ومدارس وأنماط عزيزة من الحياة. وكأن هذا الانسان خلق ليثير الاشفاق فقط وممنوع عليه أن يثير الحسد أو الغبطة. هذا مجرد مثال من افرازات تلك الثقافة التي أرادت تحويل الفقر الى مطلب قومي وشقاء الطفولة الى سيرة ذاتية مقررة على الجميع بلا استثناء. هكذا إذن تكررت حكاية العربي المُنْبتّ الذي لا رفاهية قطع ولا إشتراكية أبقى! ( الدستور )