مصر بين تصريحين!!

عامان فقط هما الفاصل التاريخي لا التلفزيوني بين عبارتين تكررتا بالحرف الواحد، لكن المقصود بكل منهما مختلف عن الآخر إن لم يكن مضاداً له..
العبارة الاولى لوزير خارجية مصر الاسبق ابوالغيظ عندما هدد بكسر رجل من يتخطى حدود مصر وكان يوجه انذاره الى الفلسطينيين في غزة.. والعبارة الثانية طازجة صدرت قبل يوم فقط على لسان المشير طنطاوي رئيس المجلس العسكري المصري الذي يتولى قيادة مصر في غياب الرئاسة المدنية، وهي انذار موجه هذه المرة الى اسرائيل بعد قرار ايقاف الغاز المصري المتدفق الى الدولة العبرية. وكرد فعل مباشر وفوري على تصريحات ليبرمان وبن اليعازر فما الذي تغير إذن؟ بحيث تصبح الرجل المهددة بالكسر أو القطع اذا اقتربت من حدود مصر وسيادتها هي الرجل الاسرائيلية وحدها؟
للوهلة الاولى يشعر من سمع العبارتين على ما بينهما من فارق زمني وسياسي بأن مصر عادت الى موقفها الأول، واستراتيجيتها الثابتة إزاء فلسطين دفاعاً عن أمنها القومي، هذه الاستراتيجية التي حاول السادات قلبها رأساً على عقب عندما بث إعلامه ثقافة قاصرة تقول للمصريين إن فلسطين كانت سبب حروبهم وأزماتهم الاقتصادية، مقابل ثقافة كانت سائدة في خمسينات وستينات القرن الماضي هي باختصار أن مصر تدافع عن أمنها القومي، وان هذه الرؤية الجيوبوليتيكية لم يخترعها عبدالناصر، بل مارسها ميدانياً محمد علي باشا، وحتى غزاة مصر مثل نابليون لم يكونوا بعيدين عنها.
وعندما هدد أبوالغيط الفلسطينيين بكسر أرجلهم، كان يدرك بأن هناك من يقاسمه هذا المشروع، وهو إسرائيل ذاتها التي لم تكف عن محاولة قطع أرجل الفلسطينيين اذا لم تستطع قطع رؤوسهم وسلالتهم من التاريخ.
لكن هل تؤخذ تصريحات الساسة والجنرالات بمعزل عن مرجعيات وحيثيات وأزمات داخلية، وهل يمكن للعبارات الواردة في سياق سياسي أن تكتفي بذاتها ولا تقبل التأويل؟
لقد حكم العسكر مصر منذ عصر محمد علي باشا وما كتبه د. أنور عبدالملك عن تكوين الجيش المصري كجيش وطني نال ثقة الناس في مختلف المراحل يستحق ان يقرأ او تعاد قراءته الآن، واللحظة التي صرح فيها المشير طنطاوي بعبارات حاسمة ليست فقط لحظة الغاء أو تجميد اتفاقية تجارية كاتفاقية الغاز بين القاهرة وتل أبيب، فعلى شواطىء النيل ذاته هناك أزمات أخرى وثيقة الصلة بالاستراتيجية المصرية سواء بالنسبة للنيل الذي هو روحها وحياتها أو لما يحدث في السودان بين شماله وجنوبه، خصوصاً بعد أن سربت أنباء عن جنرالات في اسرائيل هددوا بالاغاثة العسكرية لجنوب السودان، وبالطبع كان لاسرائيل دور مشهود في تلك الدراما السوداء.
لقد مرت مصر خلال ستة عقود بمد وجزر كان لهما تأثير كبير على الرأي العام وتحديد جهة البوصلة السياسية، وبالتالي الاعلامية.
وأذكر ان هناك صحفيين واعلاميين امتدحوا تصريحات أبوالغيط عندما هدد بكسر أرجل الفلسطينيين اذا اقتربوا من حدود مصر، وكتب أحدهم بالحرف الواحد في روزاليوسف أن الفلسطينيين قتلوا من المصريين أكثر مما فعل الاسرائيليون؟ لهذا يبدو تصريح المشير طنطاوي في ظاهره على الأقل تصحيحاً لما قاله أبوالغيط ان لم يكن اعتذارا عنه نيابة عن مصر الكبيرة. (الدستور)