العقوبات على سوريَّة.. رُبَّ ضارَّةٍ نافعة

أذكرُ أنَّ زائر سوريَّة في أوائل تسعينيَّات القرن الماضي كان يندهش مِنْ أنَّ شوارعها تكاد تكون متحفاً كبيراً للسيَّارات القديمة مِنْ طُرُز الثلاثينيَّات والأربعينيَّات والخمسينيَّات, التي كانت قد انقرضتْ في معظم دول العالم. ورغم قِدمها, كانت تلك السيَّارات تتمتَّع بحالةٍ جيِّدة مِنْ حيث مظهرها وأدائها وحالتها الميكانيكيَّة. ونادراً ما كنتَ تشاهد, آنذاك, سيَّارةً مِنْ طرازٍ حديث; وإذا حدث ذلك, تكون تلك السيَّارة, على الأغلب, لزائرٍ عربيّ.
كانت سوريَّة, آنذاك, تبني اعتمادها على نفسها في مختلف المجالات, خصوصاً في المجال الاقتصاديّ; لذلك, فقد كان استيراد الكماليَّات, ومِنْ ضمنها الطُرز الحديثة من السيَّارات, محظوراً تقريباً. وفي ظلّ تلك الظروف, تطوَّرت الزراعة هناك ونمتْ; إلى حدّ أنَّ سوريَّة لم تبلغ الاكتفاء الذاتي, حسب, بالموادّ الغذائيَّة; بل أصبحتْ, أيضاً, تصدِّر الكثير مِنْ منتجاتها النباتيَّة والحيوانيَّة إلى الدول العربيَّة الأخرى وإلى العديد مِنْ دول العالم, ومِنْ ضمنها دول أوروبّا الغربيَّة; حتَّى أنَّني قرأتُ, قبل سنوات, في بعض الصحف الأردنيَّة, تقريراً صحافيّاً أجنبيّاً مترجماً وردتْ فيه معلومة تقول إنَّ المعكرونة الإيطاليَّة الشهيرة تُصنع من القمح السوريّ.
وقد خرجتْ سوريَّة, مِنْ حقبة توريط الدول بالديون والاعتماد على المساعدات, بسلام; لتكون من الدول القليلة في العالم غير المدينة للبنك الدوليّ أو للعواصم الرأسماليَّة الدوليَّة.. ولا تعتمد على المساعدات الخارجيَّة.
وفي فترة تقييد الاستيراد, تلك, تطوَّرتْ المِهن والحِرف المختلفة, في سوريَّة, ومِنْ ضمنها صيانة السيَّارات القديمة بشكل متقن يثير الإعجاب, رغم أنَّ معظمها لم تكن تتوفَّر له قطع غيار في أيّ مكانٍ من العالم. كان الكثير من الأردنيين, آنذاك, يذهبون إلى سوريَّة لإجراء صيانة شاملة لسيَّاراتهم, هناك, أو إجراء تعديلات جذريَّة عليها; وعندما يعودون, يحضرون معهم شيئاً مِنْ فواكهها النضرة الخالية من الهرمونات, وشيئاً مِنْ لحوم الضأن الطازجة.
بعد ذلك بسنوات, بدأتْ الفنادق الباذخة الضخمة تغزو دمشق وبعض المدن السوريَّة الرئيسية; كما انتشرتْ, دفعةً واحدةً, مختلف أنواع السيَّارات الحديثة. وإذا كنتَ هناك في الصيف ووقفتَ في الشارع تطلب سيَّارة أجرة, كنتَ تواجه صعوبة كبيرة في العثور على واحدةً تُقلّك إذا لم تكن ترتدي دشداشةً بيضاء; وبصعوبة, أيضاً, كنت تجد مطعماً لم يتكيَّف لمواصفات السائح النفطيّ. وبدأتْ رطانة الليبراليَّة الجديدة تنتشر, هناك أيضاً, وتترك بعض بصماتها الضارَّة على النمط الاقتصاديّ الدولتي. وهذا كان له دورٌ رئيسي في تغذية التناقضات التي أدَّت إلى الأحداث الأخيرة. لأنَّه هيَّأ لها قاعدةً اجتماعيَّةً في الأرياف وبعض مدن الأطراف.
لقد أثار هذه التداعيات, في ذهني, قرار دول الاتِّحاد الأوروبِّي حظر توريد بعض السلع الكماليَّة الفخمة, ومِنْ ضمنها السيَّارات, إلى سوريَّة. وهذا, إضافة إلى قرارات الحظر الاقتصاديّ الأخرى التي اتَّخذتها الدول الأوروبّيَّة والولايات المتَّحدة ودول الخليج في أوقاتٍ سابقة.
رُبَّ ضارةٍ نافعة; حيث نأمل أنْ يكون مثل هذه القرارات العقابيَّة عاملاً مشجِّعاً على الإصلاح الحقيقيّ المنشود, الذي يخدم سوريَّة فعلاً, وليس ذاك الذي يقود إلى تقسيمها وإضعافها وتبعيَّتها; كما يريده الأمريكيّون وبعض أتباعهم من الدول العربيَّة التي تحكم شعوبها بأساليب العصور الوسطى.
الإصلاح المأمول, الآن, في سوريَّة, يتطلَّب نبذ الأساليب الليبراليَّة الجديدة, والعودة إلى بناء الاقتصاد بمنظور إنتاجيّ وطنيّ متمحور على الذات; يقوم على تعزيز دور القطاع العامّ, وتشجيع المشاريع الصغيرة, وتنمية الحِرف والمهن الضروريَّة, ومكافحة الفساد والأنماط الاقتصاديَّة الطفيليَّة (خصوصاً الكمبرادور), ودعم الزراعة, وإعادة توزيع الدخل بصورةٍ عادلة, وتحسين مستوى الطبقات الشعبيَّة. وكلّ ذلك في إطار ديمقراطيّ اجتماعيّ يستند إلى تحالف وطنيّ شعبيّ حقيقيّ.. مع موقفٍ واضحٍ وثابت من الإمبرياليَّة والصهيونيَّة والرجعيَّة.
(العرب اليوم)